الثلاثاء، 23 يوليو 2013

تعريف الشعر الشعبي دراسة ادبية تحليلية

توطئــة
     كثيرا ما يتبادر إلى ذهن كثير من الناس أن الشعر الشعبي ما هو إلا شعر وضيع مبتذل رخيص":«إذ نصف الشعر الشعبي بالسلطة العفوية.إن لم نقل السذاجة أحيانا»([1])،كما أن الشعر الشعبي هو ما يستوحى من الشعب على اختلاف طبقاته ، ويفيض بروحه ويعبر عن ذوقه ومشاعره،ويصور مستوى حياته ويظهر ثقافته،سواء أكان مسجلا بالكتابة أو تتداوله الشفاه ،صادرا عن فرد أو جماعة ، ناشئا في قرية أو مدينة.فهو الشعر الذي يصور طقوس الحياة في جوانبها الاجتماعية والسياسية بصورة يغلب عليها طابع التعميم والنزوع الأخلاقي،يصطبغ الشاعر بروح دينية هي أقرب إلى المثالية منها إلى تحليل الظواهر والظروف المتداخلة([2]).       
    إننا عندما نتوقف عند هذا النوع من الشعر نجد تداخلا بين الأسماء، هذا اللبس له ما يبرره ألا وهو الاختلاف حول ضبط تعريف للشعر الشعبي إذ لا يوجد إجماع بل تفرقت الآراء واختلفت؛على أساس أن"«الأدب الشعبي هو الأدب المجهول المؤلف العامي اللغة المتوارث جيلا بعد جيل بالرواية الشفوية»([3]).
     وهناك من سماه بالعامي،بحكم أن ":«سر إطلاق كلمة عامية على هذا الشعر هو التزامه بالعامية منذ البداية»([4])،وهناك من سماه بالزجل حيث:«... اصطنعه الزجالون عن طريق التقسيم والتشطير والترتيب للأبيات ومجزئاتها وعن طريق الموضوعات التي يطرقها ثم عن طريق المعاني والأفكار التي يعبر بها".([5])؛فقد ربط "مرسي الصباغ" الشعر العربي باللهجة المستعملة وهي العامية وبالتالي سماه العامي، أما "عباس الجراري" فقد رأى بأن منشأ الشعر الشعبي هو الزجل وبالتالي تسميته "زجل" هي أولى . ويخالفهما في ذلك كله "التلي بن الشيخ" فيلح على تسمية الشعر الشعبي دون غيرها وينادي بضرورة تجنب مصطلح الشعر الملحون لأنه كما يقول: «إطلاق كلمة الملحون على الشعر الشعبي يؤدي إلى وجود مصطلحين الأدب الشعبي من جهة،والشعر الملحون من جهة أخرى، وقد يفهم من إطلاق كلمة الملحون أنه غير شعبي مع أننا نتفق على شعبيته بكل المقاييس التي يضعها الدارسون للإبداعات الشعبية» ([6]).
       أما عبد "الله الركيبي" فيدافع عن مصطلح الشعر الملحون في كتابه "الشعر الديني الجزائري الحديث " . وقد سبقه في هذا "محمد المرزوقي" في كتابه "الأدب الشعبي" قائلا: «أما الشعر الملحون الذي نريد أن نتحدث عنه اليوم فهو أعم من الشعر الشعبي إذ يشمل كل شعر منظوم بالعامية سواء كان معروفا المؤلف أو مجهول ، وسواء روي من الكتب أو من مشافهة وسواء دخل في حياة الشعب فأصبح ملكا للشعب أو كان من شعر الخواص،وعليه فوصف الشعر بالملحون أولى من وصفه بالعامي فهو من"لحن يلحن"في كلامه أي أنه نطق بلغة عامية غير معربة ، أما وصفه بالعامي فقد ينصرف معنى هذه الكلمة إلى عامية لغته وقد ينصرف إلى نسبته للعامة،فكان وصفه بالملحون مبعدا له عن هذه  الاحتمالات.. » ([7])
ومن هذا المنطلق نرى أن هذا الاختلاف حول التسمية مرده إلى المرجعية المعرفية كل باحث، وزاوية رؤيته وتحديده لموضوع الدراسة.غير أن الجدير بالذكر أن مصطلحي الشعر الشعبي والشعر الملحون هما الأكثر استعمالا بين الناس، وإذاَ كان تعريف الشعر الشعبي تدخل فيه مجهولية المؤلف؛فإننا اليوم نعلم معظم مؤلفي القصائد ، حيث نجد أن مصطلح الشعر الملحون هو الأصح في هذه الحالة،وبالعودة إلى الشعر الشعبي الجزائري نجد أنه ينبع من عمق هذا المجتمع معبرا عن آماله وآلامه وإن طغت عليه الروح الوطنية خاصة في فترة الاستعمار، وهذا ما ذهب إليه الباحث "التلي بن الشيخ" حينما قال : «يتميز الشعر الشعبي الجزائري بالروح الوطنية والدفاع عن الحرية... » ([8]) كما نجد طغيان الجانب الديني على كثير من القصائد الشعبية،وهذا لم يمنع من تناول الشعراء لمواضيع أخرى شبيهة في مواضيعها وأغراضها للشعر الفصيح.
دور الرواية الشفهية في حفظ الشعر الشعبي :
      لقد حفظ التراث الأدب العربي عن طريق الرواية، كما ساهمت هذه الأخيرة أيما إسهام في المحافظة على أصول هذا التراث ؛إذ إن أغلب قائلي الأدب العربي خاصة الشعر الشعبي لا يحسنون القراءة والكتابة أو لا يهتمون بكتابة أشعارهم، فلا ريب إذا قلنا بأن الرواية الشفهية كان لها الفضل والأثر الفعال في إرساء أنواع الأدب الشعبي ، فالاعتماد على ملكة الحفظ وذاكرة الرواة كان لهما الدور الكبير في انتقال هذه الفنون .
وهذا ما جاء في قول "الطاهر حمروني":«والحق أن الرواية من مصادر الثقافة التي لعبت دورا كبيرا في إرساء أصول التراث والحفاظ عليه، بل وإنمائه ، فنحن ولا ريب مدينون لرواة الشعر واللغة والأخبار والحديث الشريف بكل ما وصل إلينا من تراث ، على الرغم من طول الأمد وعوادي الزمن...»([9]).
فالزاوية إذن مصدر من مصادر الثقافة و جسر واصل في عمق التاريخ وتعاقب الأجيال،والذين جمعوا الشعر العربي في عصور التدوين قد اعتمدوا على ذاكرة الرواة شأن ذلك شأن مختلف العلوم والأخبار واللغة والحديث الشريف .
إن للراوي ذاكرة فذة لحفظ مختلف العلوم وفنون الأدب والرواية في منطقة الجلفة ولقد ظهر الكثير من الرواة الذين كان لهم قدرة عجيبة على حفظ الأشعار؛ حيث نجد أن جلسات السمر خاصة في البيئات البدوية والسوق ومناسبات الزفاف والعودة من الحج كان لها الدور في إرساء الرواية الشفهية،فنجد أن الأشعار الشعبية تنتقل من منطقة لأخرى ومن مكان إلى مكان حيث ينتقل الرواة،وخصوصا إذا ما اقترنت هذه الأشعار بمدائح وذلك بغية المحافظة على نصوص هذه الأشعار ولاسيمَّا القصائد الدينية التي يعجب بها الناس ويتأثرون بها نظرا لما تحتويه من مدح للصالحين خاصة إذا كان الأمر يتعلق بمدح الرسول صلى الله عليه وسلم فكثيرا ما تشارك الفرق "فرق الإنشاد" في إحياء المناسبات الدينية والعائلية مساهمة بذلك في حفظ هذا النوع من الشعر([10]) . 
      ولا ننسى أن نذكر دور السوق في الحفاظ على الشعر الشعبي في منطقة أولاد نايل،ونقله من منطقة إلى أخرى،فمن خلاله يتاح للمداح أن يتحف مستمعيه بما تكنه جعبته من الشعر والأقوال والأمثال والحكم .
الشعر الشعبي بمنطقة أولاد نايل
     إن قلة البحث في ميدان الشعر الشعبي بمنطقة أولاد نايل جعل من العسير معرفة أصول الشعر الملحون في هذه البقعة ، غير أننا سنعرض كل ما هو متوفر لدينا من معلومات ، فالمعلوم أن  لكل منطقة تراثها وحضارتها التي  تجسد من خلالها تاريخها و تصور تطلعاتها وآمالها ، وتظهر تقاليدها وعاداتها ومختلف أطوار الحياة فيها وكذا معتقداتها ،ومن دون شك فإن المنطقة قد عرفت مختلف الأنواع الشعبية نظرا لاختلاف الحضارات المتعاقبة عليها ومن ذلك الشعر بأنواعه المختلفة ، غير أن غياب الأدلة يعسر معها توضيح هذه الأنواع ، بيد أن هناك بعض الأقوال الشعرية الأسطورية التي تتردد منذ القدم من قبل السكان منها ترديد الأطفال عند فرحتهم بالمطر "صبي صبي يالنو نذبحلك جدي حو" وكذلك قولهم:"هاكي يا شمس سنة الحمار وأعطيني سنة الغزال".
وبطبيعة الحال نرى أن هذه الأقوال القديمة وعلى الرغم من دلالاتها المختلفة ، إلا أنها تحمل في طياتها إيقاعا موسيقيا يجعل منها أبياتا شعرية.أما العصر الذي ترك أثارا واضحة في التعابير الأدبية الشعبية ومن ثم على التكلم اللهجي للمنطقة فكان ولاشك عصر دخول الهجرات الهلالية في القرن الثاني عشر ميلادي التي كانت فتحا ثقافيا عربيا ،إذ حفظت الذاكرة الشعبية فيه عدة أسماء لأبطال الهلاليين خاصة ما نجده في القصص الشعبي التي تروى في المنطقة، وهو ما يدل على انتشار الأدب العربي الهلالي في ذلك الزمن عبر أرجاء هذه المناطق،خاصة الشعري منه. إذ يذكر "عبد الحميد يونس" أن السيرة الهلالية قد عرفت مرحلة شعرية قبل أن تستقر في إطارها النثري القصصي . ([11])  وهذا يجعلنا نقول بأن أول بزوغ للشعر الشعبي ـ فيما نملكه من أدلة متواضعةـ كان في عهد الهلاليين الذين استوطنوا المنطقة، وأسهموا في تعريبها وإدخال مظاهر الثقافة العربية إليها،والتي كان الشعر العربي من أوضح تجلياتها باعتبار تعلق العرب بهذا الفن.
     ولا نجد شواهد أخرى تدل على أصول الشعر الشعبي بالمنطقة حتى نصل إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين،فقد برز شعراء تناولوا مواضيع متعددة كان الدين أهمها وذلك لانتشار زوايا ومدارس  لتعليم القرآن التي كانت موجودة بالمناطق المجاورة للجلفة،لعل أقدمها زاوية "الشيخ المختار" بولاية بسكرة الحالية التي تفرعت عنها عدة زوايا أهمها زاوية الهامل المشهورة التي تبعد عن مدينة بوسعادة ﺒخمسة عشر كلم .وقد تخرج منها عدة تلاميذ وفتحوا بدورهم زوايا للعلم.
    هذه الزوايا أدت دورًا كبيرًا في تعريب لسان أهالي المنطقة،بحيث إن  جل الشعراء الأدب الشعبي  أخذوا مبادىء لغتهم العربية منها،بل إنّ الكثير منهم قد أخذ منها ثقافته الدينية وقناعاته.
أثر البيئة الاجتماعية والطبيعية في الشعر الملحون النايلي:
     إن أثر البيئة بنوعيها الاجتماعية والطبيعية واضحة في الشعر النايلي،إذ إنّ هناك تأثيرات جلية المظاهر فيما اطلعنا عليه من نصوص شعرية ، مما يمكن الباحث من استخراج القيم والأعراف الاجتماعية ومعرفة مدى تفاعل الشاعر معها ومع مظاهر الطبيعية المحيطة به ذلك: «.. أن الفن إجمالا،والشعر خاصة ينفعل بانفعال الإنسان بالبيئة الطبيعة من حوله،وبالبيئة الاجتماعية التي يتحرك في بوتقتها متأثرا بكل ما يطبع هذه من سمات ومميزات"([12])
فبالنسبة إلى البيئة الاجتماعية،يتجلى تأثيرها بدءا بالظاهرة اللغوية. ذلك أن لغة الشعر الملحون النايلي في عمومها هي لغة المجتمع الذي توجد فيه ، والتي يفهمها ويتفاعل معها ، هذا مع ما تحمله هذه الظاهرة من قيم فكرية واجتماعية ، أو كما يقول "عبد المنعم إسماعيل" : «الأدب يستخدم اللغة أداة له ، واللغة من صنع المجتمع » ([13]) . كما تظهر أيضا عناصر الحياة البدوية التي عاشتها أغلب قبائل المنطقة إلى عهود قريبة في الشعر الملحون بناحيتها المادية والمعنوية. ففي النصوص مثلا ذكر للخيل والأنعام التي تربى في المنطقة يقول الشاعر" يحي بختي"([14]):
أمام البيوت خيل  اتدعمهـم      شامية من صيل ما فيهم تعيار
كل اخر لحصان للصيد اعلم      ولاع بيه موابدو في كل نهار
فهنا وصف للخيل وأهميتها بالنسبة للإنسان البدوي في المنطقة؛ إذ هي من مظاهر البداوة . وهناك أيضا وصف للصيد وهو نشاط بدوي معتاد ، كما تعد تربية الأغنام نشاطا اقتصاديا واجتماعيا مهما في هذه المنطقة ، لهذا يتوارد كثيرا في قصائد الشعراء يقول الشاعر" يحي بختي"في هذا السياق:
الغنم ثم الإبل فلاحتهــم   النجع إذا طل يبرى من الأضرار
وليس هذا بالغريب على الشعر العربي فقد روى الأصمعي:"أن سبيل الشعر هو وصف الحياة البدوية بطبيعتها وحيوانها فإذا خرج عن هذا الطريق لان وضعف"([15]).
وفي هذا الإطار نجد أن في المنطقة الإحتفاء بالقبيلة كظاهرة من بين ظواهر الحياة الاجتماعية البدوية مما جعل كثيرا من الشعراء يصرون على ذكر أسماء قبائلهم في أواخر قصائدهم. فبعد أن يذكر الشاعر اسمه وتاريخ القصيدة يثني على قبيلته التي ينتمي إليها ، أو يكتفي بمجرد الذكر يقول الشاعر "بن عيسى الهدار"([16]):
ألف وتسعميا ختمت الرسـالة    سبعة والستين تورخـت باسطار
مول الكلمة من أولاد عبيد الله    واسمو بن عيسى وباباه الهـدار
يسكن في الجلفة وناسو رحالة    شريف من أولاد نايل جاب أشعار
        ولم يقف تأثير البيئة الاجتماعية على الشعراء عند هذا الحد، بل تعداه إلى محاولة وصف بعض المهارات ومعارف هذه البيئة الإجتماعية ، كبعض المعارف الفلكية البسيطة التي أهمها : معرفة الإتجاهات والإهتداء بالنجوم التي برع فيها أهل البادية ، يشير إلى ذلك قول الشاعر "أحميدة بولرباح المسعدي"([17]) في وصفه لحياة البادية في بلدته فيقول:
شاو الليل انشا الله هي سيرتنا     والنجمات تقودنا في سماه تبان
وقد أورد الشعر الشعبي أيضا صورة صادقة عاكسة للبيئة الطبيعية التي تجلت بوضوح في أوصاف الشعر ، وفي مخيلات شعرائه ومصادر صورهم الشعرية ؛ لأن الشعر باعتباره جزءا من كيان الثقافة في منطقة ما،حافلاً مهما كانت ذاتيته بظواهر الواقع المحيط به. وعلى هذا الأساس يختلف الشعر من منطقة لأخرى إذ: « تختلف طبائع الأقاليم وأجوائها، ويختلف تأثيرها في نفوس الناس وأحوالهم ونظام اجتماعهم ، لأن طبيعة الأقاليم هي التي تنهج لساكنه سنن المعيشة ونظام الاجتماع ، وتكون أخلاقه وطباعه ومناظره التي تربي ذوق أبنائه ، وتغذي خبال كتابه وشعرائه.وقد يكون الإقليم صحراويا أو يكون جبليا أو قد يكون سهلا. وقد يقرب من البحر أو تشقه الأنهار، وكل عامل من هذه العوامل يؤثر تأثيره الخاص في الحياة المادية والمعنوية بمن يعيشون في ضلاله» ([18]).  ويتجلى الانعكاس في وصف الشاعر لعناصر هذه الطبيعة التي انقسمت في منطقة أولاد نايل إلى بيئة سهبية في الشمال وصحراوية أو شبه صحراوية في الجنوب .
إن تنوع البيئة قد أتاح سعة في ذهن الشعبي ، إذ ولع بذكر عناصرها والتغني بها في شعره،والتأمل في روعتها ، التي تدل على عظم خالقها.                       
       ومن الظواهر الفنية التي تدل على تأثير البيئة الطبيعية في الشعر الملحون بمنطقة أولاد نايل،ظاهرة الألفاظ ،ففي غالبية القصائد نجد المعجم اللغوي الخاص بالبيئة الطبيعية النايلية ظاهرة،فألفاظ الصحراء والصهد بمعنى الحرارة والحمان وكذلك الأغنام والغزال والخيل والنعمان والرحالة والجمال...الخ ومن الألفاظ التي تتوارد بشكل دائم في قصائد الشعراء الشعبيين، وخاصة قصائد الوصف.
       والملفت للنظر في الرموز والصور التي يستعملها الشعراء الشعبيون أن البيئة النايلية المعروفة بالجفاف نسبيا في أكثر المواسم قد أدخلت على الشعر صورا معينة ،  فنجد صور المطر،والقطر والسحاب.وورودها في القصائد يدل على أن الشعر تتزاحم فيه المعاني النفسية والعاطفية ، وإن كان مصدرها الشاعر فهي عامة باعتبار، فرداً من المجتمع فهو يتمنى كباقي أفراد بيئته هطول  المطر،نظرا لما تمثله سنين الجفاف في المنطقة من مشاكل من الناحية الزراعية والفلاحية و تربية الأغنام.
يقول الشاعر "بولرباح المسعدي":
       البرق اشفق والرعود اتهولنا    وإذاقلت رويت تمسي عطشـان
        ياربي يا خالقي جف سمـانا    والغيمة اللي توصلوترجع دخان
      كل هذه الأمثلة تؤكد ما قاله "ميشال عاصي" في كتابه "الشعر والبيئة" في الأندلس:"على هذا يمكننا القول إن التفاعل بين الطبيعة والفن،بل بينه وبين مختلف البيئات المحيطة،بين الموضوع وصورته الإبداعية،إنما هو التفاعل بين الذات والموضوع" ([19]).
وظيفة الشعر الشعبي ومكانته عند قبيلة أولاد نايل:
     إن لكل بيئة مميزاتها وخصائصها ، وما ينشأ الشعر في قبيلة ما إلا وتتأثر قصائده بمختلف الظواهر الاجتماعية والثقافية والطبيعية التي تعكس صورة المجتمع في أبيات الشعر مما يجعل هذا الشعر يحظى بمكانة رفيعة خاصة عند الطبقة الشعبية البسيطة و متوسطة الثقافة .
ويطمح الشعر بالإنسان إلى الرقي إلى درجات الفضيلة والمثالية في المجتمع محاولا جعل الخير والأخلاق أهم ما يصبو إليه من غاية وهدف ؛ فتأثر الشعر بالمجتمع الذي تسود فيه القيم والأخلاق حقيقة تتجلى في قول الشاعر النايلي بولرباح المسعدي:
كانت صحرتنا تشبه للجنـة        نوارها وأزهارها نعت البستان
كانوا فيها رجال قاموا بالسنة      أهل العز انزيلهم أبدا يتهــان
       ومن الوظائف التي نجدها في الشعر الشعبي إذن هو انعكاسه على النفس من عواطف ومشاعر وأحاسيس ووجدان لتنبعت في المجتمع قيم عالية تهدف إلى نشر الخير والمكارم ، فالشعر الشعبي إذن هو دعوة إلى المثل والأخلاق وحياة راقية وهو بعد كل هذا دعوة إلى تحلي بفضائل وصفات الحميدة .
       ومن وظائفه أيضا دعم المعتقدات والنواحي الخلقية في المجتمع؛ إذ نجد أن الشعر الشعبي قد تأثر بالجوانب الدينية وبما تمليه النزعات الخلقية؛ حيث كان التأثر واضحا و بينا ، والعلاقة المتينة بين الشعر وبما تدعو إليه الفطرة الإنسانية .فالجانب التعليمي و الوعظي، ودعم الإيمان بقدرة الله والتوكل عليه، كل ذلك كان حاضرا في أبيات قصائد الشعر الشعبي.
 بعض خصائص الشعر النايلي :
        لقد حملت الأشعار النايلية العديد من الخصائص و الميزات التي جعلتها جديرة بالقراءة ، وجلبت إليها اهتماما كبيرا ، كما كانت بحق مرآة صادقة تعكس الواقع المعاش وتعبر عن التقاليد بطريقة فريدة . وقد كانت خصائص هذا الشعر بطبيعة الحال تحمل أحيانا في طياته الخصائص المميزة للشعر الملحون عموما وخصائص أخرى تميزه عن باقي الأشعار، ومن أهم الخصائص في هذا الصدد:
1-             المزج بين عديد من المواضيع في القصيدة الواحدة فمثلا نجد في قصيدة واحدة الجمع بين الرثاء،النصح، الإفتخار...
2-             التشبع بالثقافة الإسلامية كميزة لهذه الأشعار باعتبار أن جل شعراء الشعر الشعبي يستقون ثقافتهم وأفكارهم من القرآن الكريم .
3-             الإلحاح على الوعظ والتذكير ، خصوصا الذين ضعفت أنفسهم وغرتهم الحياة بمفاتنها.
4-             الإكثار من الأساليب الإنشائية كالأمر والنهي ، لأنهما الأصلح لمقام النصح والإرشاد.
5-             اختلاف المطالع والخواتيم في الشعر النايلي عن الشعر العمودي الفصيح مثل :
 -الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم)
              -التذكير بالاسم والعرش.
              -الختام بطريقة النظم وعدد الأبيات وحتى سنة نظم القصيدة.
6-             استعمال ألفاظ قديمة تكاد تندثر ولا نجد لها اليوم استعمالاً بين الناس إلا على ألسنة الكبار الذين يقطنون البوادي منها: لجدل بوعبسا([20])، حزار([21]) .
7-             استعمال الشعراء للأمثال والحكم الشائعة من بينها :
               " سال على رابح :صباطو في اليد وكراعو حفيان "


أغراض الشعر الشعبي عند أولاد نايل:
        للشعر الشعبي النايلي أغراض عدة ،  وإذا تأملنا أشعار أحد أعلام هذه المنطقة وهو الشاعر "بولرباح المسعدي" وما جادت به قريحته ،  نجد أنه تطرق إلى أغلب المواضيع التي نظم فيها سواء الشعراء الفصيح أم الشعر الملحون ، وكتابته للشعر لم تكن لمصلحة مادية أوغيرها ، بل هي موهبة وهبها له الله ، ولقد نمت من خلال ما يعيشه في مجتمعه ، فهو يقول عن سبب قوله للشعر في قصيدته الموهبة :
"ما قصدي في قول الشعر السمعا      وانولي مشهور بين الفنانييــن
ما قصدي نكسب المـال أو نسعا      هذا عيب أو عار على فهاميــن
ما عندي في اكتابتو ابــد طمعا      واللاربح انقول باتي بعد اسنيـن
هذي هبة دارها  ربي شمعـــا      في قلبي ما اشريتها من عقاريـن
ملكني في اشبابي كانت متعـــا      وين اتضيق الروح تاتيني فالحين
اللي كانت مضيقة ترجع وسعــا      واللي كانت هم ترجع شعر احنين"
المدح :
          إن هذا الموضوع ينقسم إلى قسمين أساسين ، قسم يقوم فيه الشاعر بنظمه لأجل المنفعة،ويصف الممدوح بصفات ملفقة لا روح فيها، وقسم آخر يذكر فيه الشاعر أعمالا،فيوردها ولا يضفي صفات حسنة عليها دون أن يقدم دليلا على وجودها فيه.
         أما الشاعر "بن عيسى الهدار" فأشعاره في هذا الجانب لا يقصد من ورائها مالا ولا جاها ولا شكرا ، فقد كان يمدح رجال الدين ، الزهاد والمصلحين ، كما مدح بعض الرجال الذين كانت لهم مكانة معنوية لدى الناس أو القبيلة ، وخير مثال على ذلك هذه الأبيات التي نظمها في شخص يسمى "بن دراح العبيدلي" وقد قال فيها:
 يحكو على بطل العرب ماذا واسا    هذي ناس الغرب هوسها تهــواس      
اسمعت عليه شحال قصا في قصا    والشجاعة ليه راجل مولى بـــاس       
قرطاصو مربوط بارودو  يقسـى    اعلى شوفت لعيان يضرب بالرصاص   
في الصحرا يصاد لجدل  بوعبسا     متولع بالصيد بالحبا قــــياس([22])

الرثاء :
    الرثاء فن من فنون الشعر الغنائي يعبر فيه الشاعر عن حزنه و تفجعه لفقدان حبيب ، وهو يتلون بألوان مختلفة تبعا للطبيعة والمزاج والمواقف ، فإذا غلب عليه البكاء على الراحل،وبث اللوعة والحزن ،كان ندبا، وإذا غلب عليه التأمل في حقيقة الموت والحياة ، كان عزاءا ،وقد يجتمع الندب والتأبين والعزاء في القصيدة الواحدة .
 والرثاء يقترن بالموت ، وليس في العالم أمة لم تعرف الرثاء ، ولا أمة لم تعرف الموت ، فالرثاء وجد عند كل الأمم والشعوب بادية وراقية متحضرة([23])
 ولقد حوى شعر "بولرباح المسعدي"  في الرثاء من الفلسفة والحكمة ، مدفوعا بالشعور الطبيعي ، فكان بذلك متنفسا لأحاسيسه وهمومه ، وكل ما يجول بخاطره ، فجرى على ألسنة الناس مجرى الأمثال ، فقد كان له مع الموت موقف فجاز له أن يقول في رثائيته مناجاة مدينة الأموات وبونا بونا.
ويظهر في التأثر الواضح بمنحى شاعرية وشعر "بولرباح المسعدي الأول" ، حيث يقول في مدينة الأموات([24]) :
مساكم بالخير ياناس الدشرا        يامن كنتم كيحنا متوحشيــــن
ربي يرحمكم هو عالي القدرا       و يكمل ايامنا بالعمل الزيــــن
اقضيتو اعماركم حلو زمرا         واسكنتوا القبور تحت احجارميتين 
   يتحدث الشاعر عن تقلب أحوال الدنيا والمفارقات التي حصلت ، فبعدما كانوا أهل هذه المدينة (المقبرة) بين أهاليهم ، صاروا بين أترابها جاثمين تحت أحجار متينة . ويقول في قصيدة أخرى :
بونابونا مادريت اتفارقنــــا        وانسكن تحت احجار ما تراك العين
واتصيح بين اموات وابعيد علينا       واوسادتك اتراب بين المقبوريــن
ابك يا عيني على من خلانـــا       بعد العشرة راه صرنا متفرقيـــن
إلى أن يقول:
حكمت ربي فارق الموت علينـا       مدبر الأكوان تمشي بموازيـــن
او عدنا في الأخره نار وجنــا       ما كانش اطريق اخرى بين اثنيـن
ياعاقل بالله شوفا المجمعنـــا       كل واحد ماهوش عارف اجلو وين
رحمة ربي سابق لاطف بنـــا       هذا فضل اموزعو على حيـــن
ويعود ويشيد بقدر الموت وحكمة الله ، جاريتان على كل المخلوقات ، وبدت فلسفة الحياة لدى الشاعر ، فتصور لنا من خلال صور الموعظة والإشادة بالإيمان بقضاء الله وقدره ، ولفت الانتباه بمحاسبة النفس قبل فوات الأوان وهذا ما جاء في بقية أبيات القصيدة.
الهجاء :
    ويسمى عند شعراء الملحون "المعير" ويتفرع هذا الباب إلى فروع من الهجاء العادي السليم والذي يقوم صاحبه باختيار العبارة المحتشمة ، والكلمات التي ليست نابية فهو يقترب كثيرا من باب العتاب الشديد ومن فروعه أيضا الهجاء المقذع والذي يقوم على الصفات السمجة في المهجو والنابي من العبارات والبذيء من الكلام وكذلك الفرع الذي يختلط فيه الهجاء بالفكاهة والمقصود من هذا النوع الضحك والترفيه بالدرجة الأولى.
      ويكاد ينعدم الهجاء في الشعر النايلي فلا نقف على هجاء لشخص بعينه أو باسمه ماعدا بعض القصائد للشاعر" بن عيسى الهدار" نجد فيها هجاء لملك المغرب لكن بألفاظ سليمة مهذبة حتى وإن كانت قاسية بالنسبة للمهجو ومن ذلك قول الشاعر في قصيدة "أمحزم ساقوا بالشراميط أمجرح" والتي يهجو فيها البخلاء من الناس :
البخيل الشحيح ديما مزرزح([25])        يتبهذل في ضيفتو حالوا يشيـان
لو دار المال زاد غش وشــح        لاقمنا لا صابيا([26])  ديما غضبان
حزار([27])وبخيل من رزقو قامـح        يتلاون مهيون من شيو جيعـان
وإذا ضيع شيء تلقاه اينــوح          يتنهت ويبكي ويقول كان كـان
الوصف :
الوصف جزء طبيعي من منطق الإنسان ، لأن النفس مجبولة عليه ، إلى ما يكشف لها من الموجودات ، وما يكشف الموجودات منها، ولا يكون ذلك إلا بتمثيل الحقيقة وتأديتها إلى التصور في طريق من طرق السمع والبصر والفؤاد ، أي الحس المعنوي ،فالأمم الطبيعية هي أصدق الأمم في وصف الطبيعة ، لأنه سبيل الحقيقة في ألسنتها ولأن حاجاتها الماسة إليه تجعل هذا الحس فيها أقرب إلى الكمال ، فإذا أضفت إلى ذلك سعة العبارة ، ومطاوعة اللغة في التصريف ، كان أجمعاً للحس وأبدعاً في تصوير الحقيقة بما تكثر اللغة من أصباغها ، ويجيد الحس في التأليف بينها وتكوين المناسبات الطبيعية التي تظهر تلك الألوان المهيأة على حسب هذه المناسبات.
فكان لا يقع إلا على الأشياء المركبة من ضروب المعاني ، وكان أجوده لذلك ما استجمع أكثر المعاني التي يتركب منها الشيء الموصوف ،واظهر ما فيه وأولاها بتمثيل حقيقته ([28]).
   ومن ما جاء عن الشاعر أولاد نايل " بولرباح المسعدي "انه متعلق بالبادية                  والصحراء أيما تعلق ، فكان الوصف لها المتعرض لحالها لما كانت عليه وما آلت إليه ،فكان وصفه للمظاهر الطبيعية ولعلاقة الإنسان وارتباطه بها، فكانت بذلك دلالة ألفاظـــــــه على ذلك المنبــه لكل مستمع لشعره
قوله في قصيدة "جمال الصحراء" :
ياصحراء عنك غنيـت            نظمت اكلامي بالبيت
نوصف جمالا انريــت           بشعر اكلامو يزيـان
بالشعر الملحون انغنـي           نترنم وانحس فنـي
حبك ياصحراء فاتنــي           انا من عشق ولهان
ياصحراء ياارض الجمال           عقلي في جمالك جال
وفي قصيدة أخرى تتجسد روح إبداع وإلهام الشاعر في صورة مزيج بين وصف للطبيعة ووصف لذات محبوبته التي يتخيلها مشبها إياها بالغزال ، وهذا ما جاء في قصيدته وصف وغزل إذ يقول:
ماهوش حيوان برصاصي يفنــا          سبحان خالقي عظيم الشـأن
وردة حمراء بين الخضوره نفختنا          تتهادن بين الروابين يا خلان
ماهي زهرة بين الحشايش عجبتنا          نقطفها ونلوحها بعد انتشيان

والشاعر هنا يصف محبوبته بالغزال ثم بالوردة التي تخطف الأبصار ، فهي وردة دائمة ليست مثلها مثل الوردة التي تُرمَي بعد زوال رائحتها ، فهي باقية حتى ولو طال عليها الأمد ومهما غير الزمن فمحبوبته أجمل من الزهر.
الغزل:
الغزل فن وأدب وجداني وظيفته التعبير عن الأحاسيس في العالم الحب دون
سواها من المواضيع الأخرى ، ذات المظاهر الخارجية التي تتطلــب أدبا
 وصفيا يتصدى لها بالتصوير ،فيبرزها ويجسدها على حقيقتها ([29]).
فهو يصف الحبيبة ومافيها من محاسن ، كما يصف الحالة النفسية نحوها بما فيها من أشواق وخوالج ،إنه حديث إلى الحبيب وعنه.
       ونجد هذا الفن منتشرا في الشعر الشعبي النايلي  مثل قول الشاعر بولرباح المسعدي في قصيدته الزيارة المرة:
ياطفلة ربي ابلاني بهذا الضــر      وانت فالمكتوب كنت لي اسبابـــو
هلكتني بالعين يا سابق لشفــر        نعت قروت ارصاص في كبدي غابو
جيدك جيد اغزال خايف مستحدر        خايف من ختلات عنو يصعابـــو
بدنك ثلجا انطاح على اجبالو ذرذر      و انهودك تفاح واجد لطيابــــو
    استطاع الشاعر هنا أن يضعنا أمام مشابهة حسية من خلال المماثلة بين الجمال الطبيعي و الجمال الحسي فشبه جمال المرأة بعناصر الطبيعة على اختلاف ربوعها ، لكنه لم يخرج عن الوصف المادي لها .
الفخر:
      هو واحد من أقدم الأغراض الشعرية ، يضرب بجذوره متأصلا في أعماق الحضارة الإنسانية سواء العربية أم غيرها .غير أن تناول الشعراء لهذا الموضوع يختلف من منطقة لأخرى ومن حضارة لأخرى ومن شاعر لآخر، وتختلف كذلك درجة الصدق في هذا الباب ، فمن الشعراء من يخرج فخره عن الواقع والحقيقة ويصف نفسه أو قومه بأمور لا تتصل بهم البتة.
 وقد نال الفخر عند شعراء أولاد نايل حظًا كبيرًا من الإهتمام والعناية كما تعددت جوانب الفخر عندهم من فخر بالنفس إلى فخر بالقوم أو فخر بالمدينة، والملاحظ على أشعارهم أن الفخر يقترن دائما بالواقع وأدلته ملموسة ومرئية ويكتفون برونقة ذلك بكلمات جميلة عذبة تزيد الوصف حلاوة والسامع رغبة في الإستماع كما يقترن الفخر لديهم بالأمور الدينية ، كحفظ القرآن والصلاة والأخلاق الحميدة ،ويرتبط بأمور اجتماعية كالجود والشهامة،والمحافظة على الأصالة.
وفي هذا الصدد يقول الشاعر في الإفتخار بنفسه وأخلاقه في قصيدة "الله الله ربي وانت الفتاح":
 الله الله ربي وانت الفتـاح         صلى على محمد هو غوث الأرواح
 مانيش بدعي([30])  نزرقط([31])        طماع في النـــــــاس ايغلط
 مانيش بخلي ومـــورط         غشــــــــــاش مشحاح
   ويقول في قصيدة "منجرات الجزائر" مفتخرا بما حققته البلاد من تقدم وتطور وماشيد في الفترة التي تلت الاستعمارالفرنسي:
امعامل للحليب والمصبــرات        ومشروب لذيذ مافيه امرارا
امعامل للسكر تكفي الحاجيـات       كل جيها للزيتون فيها معصار
امعامل للصوف وصنع الزربيات      لفراشات أنواع رقما مختـارا
 الظواهر الصوتية في التكلم اللهجي لأولاد نايل:
عرفت لهجة أولاد نايل –شأنها في ذلك شأن باقي اللهجات- تغيرات صوتية طارئة ، ويمكن أن نذكر بعضها فيما يلي :    
الحذف :
مثل كلمة "على" التي لم يبق منها إلا حرف العين في كثير من المواضع   
كقول الشاعر:
            عاالجبال العالية غيم امركب     والرمال أمذهبه جات أﭭبالا     
 وقد نجد الحذف على مستوى تعبير منحوت كقول شاعر بلحاج :
         حين قنط نصحوه بركاك اتجلد     واللي فات انساه ما شلالك بيه
 فكلمة "بركاك" بمعنى "يكفيك" نحتوها من معنى البركة وهو مما يتأتى من عبارة طويلة ، وكلمة "ما شلالك" أصلها "ما شاء الله لك" أي لم يرده لك ومعناها لا شأن لك به وتاء التأنيث أهملت ولم تعد لتنطق وإنما بقيت الفتحة تعبر عنها وذلك مما يفهم من سياق الكلام كقول شاعر:
  يا عياية حبكم ما مثله ند          همه قاسي صعب ولا طڨت عليه
فالتاء في كلمة "عياية" تاء التأنيث مكتوبة لا منطوقة سواء أنقطت أم لم تنقط،ولا تنطق تاء التأنيث إلا في حالة الإضافة سواء إلى ضمير أو إلى كلمة وحينها يكتبها البعض مفتوحة يقول الشاعر:
يا شطانت حال ﭭلب المتشرد       قوايت ضري على جسدي كاسيه
 الزيادة :
وتكون قصد الجزالة والتعبير القوي ككلمة "سافيل" التي أصلها كلمة "أسفل " في قول الشاعر:
انراعي للمكان نطلع ونهود         من سافيل الواد نجبي لعاليه
أو كلمة "أضياڨت" أصلها " ضاقت" كقول الشاعر :
"أضيات قلنا أنهبو يا سعد"
التقديم والتأخير في الحروف :
وذلك مثل كلمة "ﺒﭭست" بمعنى أضاءت كالقبس وبالرغم من أنهم مازالوا يسمونه"اﻠبس" إلا أن هذا الفعل تقدمت الباء فيه عن القاف يقول الشاعر:
أوسال النجمة الضاوية وقت المغرب  اللي ﺒﭭست في الليل وغشات حيالو
وكلمة "هود" معناها: نزل إلى الوهد، تقدمت الهاء عن الواو في قول الشاعر:
انراعي للمكان نطلع ونهود     من سافيل الواد نجبا لعاليه
تغيير الحروف:
وهي ظاهرة منتشرة بكثرة في اللغة إذ تبقى الكلمة محافظة على معناها رغم تغير بعض حروفها مثل كلمة "تتمهزى" والتي أصلها تستهزئ فخففت إلى هذا النحو، كقول الشاعر:
رافع شكوى ليك وانت تتبوند    تتمهزى وتقول محبوبك باريه
وكلمة "الضاوية"بمعنى المضيئة في قول الشاعر :
"وسال النجمة الضاوية وقت المغرب"
 ومن الميل نحو الخشونة والجزالة ضاع حرف "الغين" فلم نعثر له على أثر في بيئة الشاعر وحل محله حرف "القاف" مثل كلمة "القربال" التي أصلها "الغربال"
يقول المثل الشعبي النايلي:
"السمش ما يغطيها القربال"
   كما تحولت  القاف إلى الجيم المصرية (ڨ) فكلمة " ﭭلب" أصلها "قلب" يقول شاعر:
"فط  اﻠلب من الفريسة يا سعد"
ومازال بهم الأمر حتى حولوا الجيم القاهرية إلى كاف فمرت كلمة "قتله" مثلا بمراحل هي:
               قتلهتلهكتله.
وحرف الهمزة الذي كثيرا ما تحول إلى حرف العين مثل كلمة "أيهقان" التي تحولت إلى كلمة "ﻋﻴﻫﭭان" .
الحركات :
بعد التحول الكبير الذي طرأ على الحركات أينما كان موضعها من الكلمة كان لِزَامًا أن يندثر الموضع الإعرابي للحركة تبعا لذلك ، فقد أصبحت المرفوعات و المنصوبات والمجرورات خاضعة إلى حركات متشابهة خاصة في الشعر ، والدليل على ذلك أن السكون الذي لم يكن له إلا نصيب قليل في العربية أصبح يحتل القسم الأكبر نتيجة لميل اللهجة إلى النطق بالساكن سواء كان ذلك في بداية الكلمة أم في وسطها([32]) ، ويظهر ذلك جليا  في الشعر فأصبحت اللغة تبنى على نظام الأسباب الخفيفة وبذلك طغت السكون على نصف الكلام تقريبا ، وحصرت الحركات في النصف الأخر.
    والسبب في ذلك كله هو التسهيل والإنطلاق المباشر إلى المعاني دون النظر إلى الأشكال ، يقول شاعر في وصف الحصان:
تسميره موزُوند الحافِر دار      يعمل هورة في الحجر لاح سخافو.
فكلمة "موزون" مرفوعة أصلا، وكلمة "الحافِر" مجرورة ،وكلمة "هورة" منصوبة ، لكن تظهر هنا كلها ساكنة ، أما وظائف الكلمات ومعانيها فتعرف من خلال السياق والرتبة ولا علاقة للحركات بها، خاصة إذا علمنا أن اللغة سهلة واضحة هادفة لا يشوبها التعقيد ، ولا ينتبها التقديم والتأخير إلا نادرا.
 اندثار الكسرة:
نظرًا لتسارع اللغة وتقارب نبراتها وما كان من أمر السكون والحركات ، فلقد غلبت السلسلة الخطية للحركات الفوقية ولم يعد اللسان ليتني إلى الكسرة فرفعها حتى صارت أقرب إلى الفتحة من نطقها الأصلي، وما يوضع من حركة الكسرة في كتابة الشعر إنما هو مراعاة للأصل وتمييز لها عن الفتحة ، ولم يبق من أثار الكسرة إلا ياء المد يقول الشاعر:
السابِع ضِد العدو كاسِح ار          ويح اللي يعناه  جا  فِي مِندافو
فالباء في كلمة "السابع" والسين في الكلمة "كاسح" والميم في كلمــــة "مندافو" مجرورات أصلا ، لكن الكسرة تحولت إلى ما يشبه الفتح ، أما أثـــــار الكســرة في كلمتي "اللي" و"في" فهي أثار خالدة لا يستطيع اللسان لهــا تحويل.
ولا زالت الضمة بدورها تقارب الفتحة حتى أوشكت العلامات أن تقتصر على الفتحة والسكون يقول الشاعر:
زَايَدْ عَلَى الشَجعَان بَجبَاوَة وأفخَار       خَلاف الفَرسَان من خَلف اَكتَافو
فحرف الشين في الكلمة "الشجعان" وحرف الفاء في الكلمة "الفرسان" أصلها الرفع لكنهما أنزلا غلى حركة سريعة قريبة من الفتحة كان من الواجب أن يوضع لها رمز خاص.
    ويرجع ذلك كله إلى ضعف اللسان وهجانته وزوال شأن الفصاحة ورفعتها فقد أصبحت السكون تزاحم الحركات وتقاسمها الكلام بعد أن كانت قديما منبوذة من الاستعمال لا تغمر إلا أواخر الكلام ، ولا يتوقف العرب إلا عندها وكثيرا ما حلت محلها الكسرة .
   إنها وقفات تنم بدون شك عن البُعد السردي/المعرفي لعملية التكلم اللهجي الذي استطاعَ إلى حدّ بعيد أن يصل إلى مستوى من الاهتمام البالغ من حيث ما له علاقة بالظاهرة الصوتية صفة ومخرجاً وهو زعم يجعلنا نتيقن بأنّ مثل هذه اللهجة النايلية تستحق لها الجدارة المعرفية والمنهجية من حيث ما تقتضيه طبيعة الفعل السردي في ما اتفق عليه أهل الاختصاص في هذا المجال الأخير.

هناك تعليقان (2):

  1. بحث غاية في الروعة لكن مب أين أخذت الملومات اي المراجع

    ردحذف
  2. قد أعجبني كثيرا هذا البحث المستوفى فقط أريد معرفة المرجع التي إستندت عليها و شكرا

    ردحذف