مقدمــــــــة
الحكاية الشعبية، كائن حي.. وله أجنحة.. يطير بها عابراً الحدود، بدون جواز سفر.. لذلك نرى فيها ملامح إنسانية عامة، إذ تتشابه، وتتشابك، وتنمو، وتحيا في أرجاء دنيانا: مثيرة، ممتعة، صالحة في كل مكان وزمان.
ويكفيها فخراً أنها من تأليف "الشعب" بكامل فئاته، وهي ثمرة تفكير عقل جَمْعى، لذلك تنتصر دائماً للخير، ويلقى الشر فيها هزيمة مروعة.. كما أنها تصل مباشرة إلى وجدان سامعها، وقارئها، لا تحتاج إلى استئذان ولا تقف في وجهها أبواب مغلقة أو أسوار عالية..
والعالم يعترف لنا- نحن العرب- بأن لدينا أعظم كنوزه الشعبية: ألف ليلة وليلة، ويرى في شهرزاد أهم راوية للحكايات في كل الدنيا، لذلك أخذوا منها ما أعطوه لأبنائهم، وحولوها إلى مسرحيات، وأفلام، استمتعوا بها، وأسعدتهم، ووسعت من خيالهم وأنعشت دائماً ذاكرتهم.. وفعلوا نفس الشيء مع السير الشعبية العربية مثل عنترة، وعلي الزيبق، وأبي زيد الهلالي والزناتي خليفة ودياب، بجانب سيف بن ذي يزن، والأميرة ذات الهمة.
وكان جميلاً من الأستاذ "رابح خدوسي" والأستاذة "عائشة بنت المعمورة" أن يعيدا صياغة الحكاية الشعبية العربية في الجزائر، وأن يعداها للأطفال، أسوة بما حدث في كل بلدان العالم، وسوف نجد ملامح من سندريلا في قصة "بقرة اليتامى"، واستبدلت حكايتنا الحذاء بالشعرة الصفراء، كما أن حكايتنا كانت أكثر عمقاً وإنسانية عندما جعلت البقرة أكثر عطاءً من البشر، لأنها أعطت اللبن حتى بعد رحيلها.. والنصف الثاني من القصة يذكرنا أيضاً بحكاية "جاك وأعواد الفول"، وغيرها، حين يتحمل الصغار النفي، ويعتمدون على أنفسهم وعلى القدر، وهم ينجحون في النجاة بأنفسهم، بل وتحقيق حياة كريمة..
ونحن قد نجد في الحكاية الشعبية بعض القسوة والعنف لكن أبناءنا أكثر شجاعة من أن يخافوا منها أو ينزعجوا أو يرتجفوا، وهم يتقمصون شخصيات أبطال هذه الأعمال وهم قادرون على احتمال هذا الذي يجري معهم، وإن كنت شخصياً أفضّل استبعاد بعض الأحداث، لأننا نريد للأبناء أن يكونوا أكثر شعوراً بالأمن والطمأنينة..
لأن في دنيانا ما يزيد على الحاجة من الرعب الفزع. وحكاية "الأميرة السجينة" فيها من "جميلة والوحش" ومعروف أن لعقل الإنساني قادر على أن يهزم المارد والوحش والعملاق، إذاً ما أحسنا التفكير والتدبير.
ولا يعني هذا التشابه أننا أخذنا منهم وعنهم، لكن الحقيقة أننا أبدعنا بأنفسنا حكاياتنا، ومن قبلهم، وإنها طارت هنا وهناك، لأنها كائن حي لـه جناحان.. ولا يعقل أن تعلم شهرزاد العالم رواية الحكايات التي أنقذت حياتها، وحياة فتيات كان من الممكن أن يتخلص منهن شهريار، أي أن الحكي قد انتصر على القتل، وهزمه..
لذلك فإن لنا أن نشد على يد الكاتب "رابح" والكاتبة "عائشة"، شاكرين لهما أن قدما لنا هذه الأعمال التي وصلت إلينا عبر الأجيال، وكابدت الزمن، وبقت حية مما يؤكد أصالتها، وهو أمر جعل الناس يتوارثونها، ولا يفرطون فيها.. وهي-أي الحكايات- أروع بكثير من تلك التي تصل إلينا مترجمة ومنقولة، فهي ملكنا، وخاصة بنا، وتمسّ منا العقل والقلب والوجدان، وتجعل منا أناساً طيبين، وقادرين على مواجهة المصاعب، وعلى حل المشكلات، كما يفعل أبطالها..
نعم، إن البطولات التي أبداها شعب الجزائر من أجل الحرية والاستقلال قد يراها البعض أكبر وأعظم من تلك التي يقوم بها أبطال الحكايات الشعبية، لكن هذه الحكايات ساهمت بدون شك في وجود الأبطال الحقيقيين... ومرحباً بحكايات الجزائر الشعبية لكل القراء العرب في وطنهم الكبير.
الدكتور: عبد التواب يوسف
قصة الستوت
( العجوز الخبيثة الماكرة )
( قصة من التراث الشعبي الجزائري )
- 01 -
حكي فيما مضى من قديم الزمان ، وسلف من أحاديث الأجداد ، أنه كانت هناك في قرية امرأة كبيرة لا يوجد أمحس منها ، وكانت بشعة جدا ، ذات خد مشموط ( أي به خطوط من كثرة التجاعيد ) وحاجب ممقوط وأسنان مكسورة ، ووجه أنمش ولحظ أعمش ورأس أغبر ، وشعر أشهب ، وجسم أجرب ولون حائل ومخاط سائل وقد مائل... فهي كما قال فيها الشاعر:
عجوز النحس إبليس يراها ** تعلمه الخديعة من سكوت
تقود من السياسة ألف بغل ** إذا نفروا بخيط العنكبوت
وكانت هذه العجوز تمر على جماعة في مكان اعتادوا على الجلوس فيه ، وفي كل مرة تمر عليهم تجدهم دوما يلعنون الشيطان ويسبونه ، غير أنّ هذا لم يعجبها وتقول لماذا يلعنون الشيطان ؟ ماذا فعل لهم ؟ وبينما هي على هذه الحال إذْ تجسّد لها الشيطان اللعين وقال لها: ما بك أيتها العجوز ؟ فردت عليه ، لا أعرف لماذا هم متحاملين على الشيطان دوما ، فرد عليها: لأنه يثير الفتن ولا يفعل الخير أبدا، كما أنه يثير الخصومة والشقاق بين الناس،فقالت له: إنه لا يستطيع فعل ذلك ، فرد عليها : بل يستطيع ، لترد عليه مجددا: لا يستطيع ، فأخبرها أنه هو الشيطان ثم قال لها:ما رأيك لو أذهب لتلك الجماعة وأثير الفتنة بينهم، فقالت له: جرب حتى أرى وأتأكد.
فذهب إليهم وجلس بينهم ، وبدأ يثير الفتنة بينهم حتى جعلهم يتخاصمون وكادوا يقتتلون ، فتفرقوا ولم يجتمعوا من ذاك اليوم.
ورجع إليها قائلا: أرأيت ماذا فعلت ، فردت عليه :هذا لا شيء ، ثم سألته: هل من شيء صَعُبَ عليك ولم تقدر عليه؟ فقال لها: بأنه توجد امرأة متزوجة من ابن عمّها وقد حاولت جاهدا أن أدخل الفتنة والحقد بينهما فلم أستطع.. ففكرت قليلا ثم قالت له: طيب ، دُلني على منزلها ومنزل أهلها ومنزل أهل زوجها ، وأخبرني عن اسمها واسم زوجها و ...المهم أنها طلبت منه بعض المعلومات عنهم ، ثم طلبت منه أن يحضر لها فردا من حذاء جديد أو لا يزال في حالة جيدة ، فأحضره لها، وبعد أن تمّ لها كل شيء ذهبت وطرقت الباب : ففتحت له صاحبة المنزل الباب وأدخلتها وسألتها من تكون؟ فقالت الستوت أنا قريبة لك وأسكن في بلاد بعيدة، ألست فلانة بنت فلان وفلانة وزوجك اسمه كذا ...المهم بدأت تخبرها وتحدثه عن أهلها حتى ارتاحت لها الزوجة وتيقنت أن هذه العجوز هي فعلا تعرفهم.. ثم قالت العجوز: هل يوجد عندكم طعام يا ابنتي ، فأنا أتيت من قرية بعيدة ولم آكل شيئا منذ مدة ، فقامت صاحبة البيت لتحضر لها بعض الطعام، وأثناء ذلك قامت العجوز ورمت فردة الحذاء في الحوش، وعندما أحضرت لها الطعام قالت العجوز لها: هلاّ أحضرتي لي ملعقة أخرى، لأني عندي طبع وهو أن آكل بملعقتين، فتعجبت منها الزوجة، وأحضرت لها ملعقة أخرى، وأصبحت الستوت تأكل مرة بهذه ومرة بالأخرى، وفجأة سُمع طرق على الباب ، فذهبت صاحبة البيت لفتح الباب فوجدته زوجها فقالت له: لقد جاءتنا عجوز قريبة لنا، تعال وسلّم عليها ، وعندما دخل الزوج ليسلم عليها هزّت فيه رأسها باستغراب وسألتها من يكون هذا ؟ فردت عليها الزوجة : هذا زوجي الذي حدثتك عنه ، فزاد استغراب الزوجة: زوجك ؟!!هل لديك زوجان أم ماذا ؟!!إذا كان هذا زوجك فمن الرجل الذي كان يأكل معنا ؟ أما الزوج فقد أنكرت وجود شخص ثالث كان معهما ، وبدأ الشك يدخل الزوج ، وبدأت العجوز تتظاهر بالحيرة والعجب وتقول: والله هذا شيء عجيب وعمري ما سمعت بمثل هذا !!ونظر الزوج إلى الطاولة فوجد فيها ثلاثة ملاعق، وهذا يعني أنه هناك شخص ثالث كان معهما، فدخله الشك أكثر ، وبدأ يدور في أرجاء المنزل حتى وجد فيه الحذاء ، فثارت ثائرته وقام لزوجته يضربها.
هذا ما كان من أمر الرجل وزوجته، أما ما كان من أمر العجوز فإنها تسللت وأسرعت إلى بيت أهل الزوجة وهي تصرخ وتولول: أسرعوا وأغيثوا ابنتكم لأني كنت جالسة معها وفجأة دخل رجل وبدأ يضربها ، وإنكم إذا أسرعتم تجدونها حية وإلا فإنه سيقضي عليها ، فثار أهل الزوجة حاملين العصي والسكاكين..ثم أسرعت العجوز إلى أهل الزوج تصرخ: أسرعوا وأغيثوا ابنكم فقلد تحامى عليه أهل الزوجة، وإنكم إذا أسرعتم تجدونه حيا وإلا فإنهم سيقضون عليه.
كل هذا يحدث والشيطان اللعين يراقب ذلك ، ثم قال لها ، أثرتها، فعلتها..فردت عليه: أجل وماذا كنت تظن، والآن يجب أن أهرب بجلدي فإنهم متى فطنوا بي سيقضون عليّ ، وتركته وهربت
- 02 -
وبعد أيام خرجت الستوت إلى السوق في وقت متأخر فوجدت كل الدكاكين مغلقة إلا دكانا واحدا، فاقتربت من صاحبه وسألته عن سبب عدم ذهابه إلى منزله مثل الآخرين ، فأخبرها أنه من قرية أخرى ، وبقيت تسأله لتعرف عنه كل شيء: هل أنت متزوج ؟ نعم أنا متزوج وعندي بنتان ، وقد تركتهم وهربت عنهم ، منذ حوالي سبع أو ثماني سنوات ومنذ ذلك الحين لا خبر عنهم، وعندما تمّ للعجوز ما أرادت توجهت مباشرة إلى القاضي شاكية باكية : يا سيدي القاضي لقد تزوجت من رجل ومنذ حوالي ثماني سنوات هرب وترك لي بنتين ، وقد بقيت أبحث عنه حتى وجدته في هذه البلاد، وله دكان في السوق ، وأنا الآن أريد حقي وحق ابنتي من النفقة ، أو يسرحني أو يرجعني إلى عصمته.
فأرسل القاضي أحد رجاله مع العجوز لتدله عليه، وعندما اقتربا قالت العجوز للحارس: سأبقى هنا مختبئة حتى لا يراني ويهرب ، وذاك هو الدكان . وعندما ذهب أسرعت الستوت إلى بيتها وأوصت بنتيها وقالت لهما : سيأتي فيما بعد رجل من رجال القاضي ستذهبان معه إلى المحكمة ، وهناك ستجدان رجلا صفاته كذا وكذا ويلبس كذا وكذا..وعندما تدخلان عليه تعلقا به وقبلانه وقولا: أبي أبي ، أين كنت كل هذه المدة..
ثم إن تلك الستوت رجعت إلى المحكمة وسبقت الحارس الذي جاء مع الرجل، وعندما أدخله على القاضي قال له القاضي: إنّ هذه العجوز تشكو بك وتقول بأنها زوجتك وعندك منها بنتان وانك هربت عنهم وأهملتهم..
فقال الرجل صاحب الدكان: إنها تكذب فأنا لم أرها في حياتي أبدا إلا اليوم. وحكى له ما حدث معها، ثم قال للقاضي: إنّ كان عندها من دليل فلتخبرنا به، فقال القاضي للعجوز: هل عندك من دليل ؟ فردت عليه: ليس عندي أي دليل، ولكن احضروا ابنتي إلى هنا، فإذا تعرفتا عليه فسيكون كلامي صحيحا، وإلا فسأسلم أمري إلى الله وسأرضى بما تحكم ، وسأدلكم على المنزل ليذهب إليه أحدهم وسأبقى أنا هنا حتى لا تقولوا أني وصيتهما أو شيئا ما..
وذهب الحارس وأحضر البنتين إلى المحكمة وما إن دخلتا وشاهدتا الرجل الذي وصفتهما لهما أمّهما حتى قفزتا عليه وتعلقتا به تقبلانه: أبي أبي أين كنت كل هذه المدة، والرجل المسكين أصبح مغلوبا على أمره،لم يستطع فعل أي شيء.
فقال له القاضي: لقد ثبت عليك الأمر وهذه زوجتك وهي لا تكذب، ويجب عليك أن تعطيها نفقتها ونفقة البنتين. فقال العجوز: أنا لا أريد نفقته، وكل ما أريده هو أن يرجعني إليه فأنا أصبحت كبيرة، فحكم القاضي لها بأن يرجعها إلى عصمته ويتكفل بهم.
فما كان من الرجل المسكين إلا أن رضخ للأمر وذهب بها إلى منزله.
- 03 -
وبعد مدة من الزمن قالت الستوت لزوجها ( أي الذي أصبح زوجها رغما عنه )
قالت له: إن الدكان ليس فيه سلع كثيرة وأنه لا يساعد على المعيشة، فلا بد من الذهاب إلى السوق وشراء سلع جديدة..فذهبت إلى السوق وهو يـتـبعها ، ودخلت عند تاجر كبير، في حين طلبت من زوجها أن يبقى في الخارج، وأصبحت تختار الأقمشة الرفيعة والباهظة الثمن، وعندما أنهت اختيار الأقمشة قالت للتاجر: أحضر لي حمّالا يوصل السلع إلى البيت وسأرسل لك النقود معه، هذا زوجي سيبقى هنا معك، فقال لها: حسنا..وأحضر لها حمالا الذي أوصل لها السلع إلى بيتها، وعندما وصلت قالت للحمّال: أنا الآن عندي موعد مهم، ارجع أنت إلى التاجر وانتظرني هناك، وسأعود بعد قليل وأحضر المال معي لأعطيك أجرتك وأجرة التاجر، وزوجي هناك ينتظر معكم.
فرجع الحمال إلى التاجر ، أما العجوز فإنها أسرعت إلى بناتها وهربت إلى حي آخر، هذا ما كان من أمرها، أما ما كان من أمر الحمّال فإنه لما عاد إلى التاجر سأله عن النقود، فأخبره أن العجوز طلبت من الانتظار وأنها ستأتي بعد قليل بالنقود، كما قالت أن زوجها سينظر معهم، فقال التاجر:ما دام زوجها هنا فستأتي حتما.
وجلسوا جميعا ينتظرون حتى أظلم الليل، لكنها لم تأت.فغضب التاجر وقال لمَ لمْ تأت لحد الآن، وسأل زوجها عن سبب تأخر زوجته، فقال الرجل: لا هي زوجتي ولا أنا أعرفها ، وحكي له كل ما حدث معها، فما كان من التاجر إلا أنْ حمّل التاجر كل المسؤولية واتهمه بالاشتراك معها..وفي الصباح رفع التاجر شكواه عند القاضي متهما الحمال والرجل ، وحاول الحمّال الدفاع عن نفسه، فقال القاضي له: أنت تعرف البلاد جيدا، ابحث عن تلك العجوز وأحضرها، فراح يبحث عنها وهو يلعن اليوم الذي رآها فيه..وبقي على هذه الحال مدة حتى وجدها ، ومن شدة غضبه أصبح يرفعا ويفضخها على الأرض ( أي يرميها على الأرض بقوة ) ثم جرّها إلى القاضي ، وبينما هما يسوقها مرّا على المزيّن ( الحلاق ) فقالت للحمال: لدي حاجة عند هذا المزين، فرفض في بداية الأمر، لكنها رضخ بعدما قالت أن الأمر يتعلق بالمال.
وعندما دخلت وجدت ثلاثة رجال ينتظرون دورهم ، فقالت لهم: أريد منكم خدمة بسيطة، هذا ابني في الخارج وهو يعاني من ألم شديد في جميع أسنانه، ومنذ عدة أيام لا ينام ولا يتركنا ننام، أريد منكم أن تساعدوا المزين على اقتلاع أسنانه، ولا تستمعوا له فقد ينكر أنني أمّه ( ها ها ها ) ونادت العجوز على الحمال وطلبت منه الدخول ، وما إنْ وضع رجليه في الداخل حتى أمسك به الرجال كل واحد من جهة، وأقعدوه فوق الكرسي في حين أن العجوز تسللت وهربت، أمّا الحمال فقد كان متعجبا وقال لهم: ماذا يحدث؟ لماذا تمسكون بي ؟ فقالوا له: أمّك العجوز التي كانت هنا طلبت منا أن ننزع أسنانك التي تؤلمك، فقال لهم: ليست أمي ، إنها تكذب عليكم ، فقالوا له: حسنا ، أمك وتكذب عليك، الآن عندما ننزع لك أسنانك سيأتيك النوم في الليل ولن تزعج أحدا ، فبدأ يصرخ و...ومختصر القول أنهم فتحوا فمه بالقوة وقلعوا الكثير من أسنانه وخرج من فمه دم كثير، وأصبح في حالة يحسد عليها،فرجع إلى القاضي وقال له: أنظر ماذا فعلت بي تلك العجوز، ولن أبحث عنها إلا إذا أعطيتموني أجرة، فقال القاضي:حسنا ، واستدعى التاجر وقال له: هذا الحمّال المسكين أنظر ماذا فعلت به الستوت، فإذا أردت أن يجدها عليك أن تعطيه أجرة، فقبل التاجر بعد معارضته في البداية.
- 04 -
ومرة أخرى تقع العجوز بين يدي الحمّال فأمسكها وقال لها: في المرة السابقة نزعت أسناني والآن ماذا ستفعلين؟ لن أفعل لك شيئا،لكن تحركي أمامي وإلا رأيتي منّي ما لا يرضيك. فرضخت له ومشت، وعندما وصلا إلى المحكمة، وجدا القاضي قد انتهى من عمله وهو ذاهب إلى منزله، فقال الحمّال: ها هي العجوز قد أحضرتها لكم.
ولم يكن هناك سجن خاص بالنساء وقتها، فقال القاضي: جيد، دعها الآن معي سآخذها معي إلى المنزل، وأنت في طريقك قل للتاجر والشيخ الذي ادعّت عليه بأنه زوجها وأبلغهم بأن يحضروا بعد صلاة الظهر لمحاكمتها. وقام بعدها الحمال بإبلاغ التاجر والشيخ هذا ماكان من أمرهم ,أما ماكان من أمر القاضي فانه أخذ العجوز معه وعندما أدخلها إلى بيته قال لبناته وزوجته أحسنوا إليها وانتبهوا لها جيدا، ثم جلس وبعدما أنهى فطوره دخل غرفته لينام،وعندما عرفت العجوز بأنه نام، قالت لبناته:لقد تأخرت كثيرا وأريد الذهاب فهلا سرحتموني، فردت عليها واحدة منهن : ولكن لما أنت هنا ؟ فقالت العجوز :هناك عرس قريب منا وأنا عندي بنات يردن أن يذهبن إلى العرس ولكن ليس لدينا مانلبسه من ذهب وحلي فأتيت للقاضي وطلبت منه ذلك ووعدته بأني سوف أعيده له بعد العرس كما وعدته بإحضار بعض الروائح والطيب من هناك..فما كان منهن إلاّ أن أسرعن وأحضرن لها كل ما طلبت، ثم خرجت، لتتمكن بهذه الحيلة الهرب من جديد، وعندما استيقظ القاضي سألهم عنها، فأخبرنه بأنهن أعطينها الذهب والحلي، فقال القاضي: أي ذهب وأي حلي ؟ فعرف بعدها بأنّ الستوت تمكنت من خداعه هو أيضا، فقال كلمة لا يخجل أحد من قولها: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم توضأ وذهب إلى المسجد أين صلى الظهر ثم ذهب إلى المحكمة فوجد التاجر والحمال والشيخ الذين بدا على وجوههم الاستغراب من حضور الشيخ بمفرده، غير أنه قطع عنهم استغرابهم قائلا: لقد تمكن العجوز من الهرب مرة أخرى، وحكى لهم كل ما حدث، ثم أمر الحمّال بالبحث عنها.
وبدأت عملية البحث مجددا ، وفي أحد الأيام عثر عليها فأمسكها والشرر يتطاير من عينيه: أيتها العجوز النّتنة ، هل تظنين أنك ستهربين مني مجددا ، تحركي أمامي إلى المحكمة..فإلى متى سأبقى ألاحقك وأبحث عنك، فسارت أمامه وعندما وصلا إلى المحكمة كان الوقت متأخرا وكاد الظلام يخيم، فقال له القاضي: لقد تأخر الوقت ولا يمكننا محاكمتها الآن، سنقوم بذلك غدا في الصباح الباكر، وأنت بلغ التاجر والشيخ أن المحاكمة غدا، ثم أمر القاضي بربط الستوت في عمود بالمحكمة، حتى لا تتمكن من الهرب وجعل عليها حارسا، وذهب إلى بيته.
وكان ذلك الحارس غبيا بعض الشيء ، وبدأ يتكلم معها ويسألها: من أنت أيتها العجوز ؟ وما الذي قمتي به حتى ربطوك هنا ؟ وكان الحارس بين كل كلمة وأخرى يذكر الزلابية ( حلوى معروفة ) ، فعرفت العجوز بأنه يحبها كثيرا، فقالت له: اعلم يا ولدي بأني أم القاضي، ولقد حتّم عليّ في كل يوم صباح بأكل صحن من الزلابية، وإذا لم آكلها يقوم بربطي.
فقال الحارس: يقومون بربطك لأنك لم تأكلي الزلابية، لو أنهم أعطوني صحنا أو صحنين لأكلتهما، فقالت له: أتستطيع أكل صحنين؟ فقال لها الحارس: أي نعم ولو كانت أربعة ، فقالت له الستوت: إذا كنت تحب ذلك ففك الرباط عني وخذ مكاني وفي الصباح عندما يأتون بالزلابية فكلها أنت لوحدك، فأسرع الحارس وحلّ رباطها ، وقامت هي بربطه مكانها وهربت.
وفي الصباح عندما جاؤوا لمحاكمتها وجدوا الحارس مربوطا مكانها، فسأله القاضي: أين العجوز؟ وماذا تفعل أنت هنا؟ فقال له الحارس: أين الزلابية ؟ القاضي: أية زلابية ؟!! الحارس للقاضي: الزلابية التي كنت تعطيها لأمك العجوز كل صباح..فعرف القاضي بأن العجوز قد لجأت إلى حيلة أخرى مكّنتها من الهرب، عندها التفت القاضي لهم وقال: هل رأيتم كل ما فعلته هذه الستوت لحد الآن ؟ حقا إنها خبيثة ومحتالة ،ويظهر أنها ستثير الفتن والمشاكل في البلاد ، وأظن أنه في رأيي يجب أنْ نعطيها الأمان وأن نسامحها أحسن، فوافقوا جميعا على مضض.
فأذن مؤذن : أيتها العجوز عليك الأمان..
وعندما سمعت الستوت بذلك، اتجهت للمحكمة ، أين وجدتهم جميعا هناك: فأصلح القاضي بينها وبين الحمّال، وكذلك مع التاجر الذي سامحها على السلعة التي أخذتها، وكذلك الأمر مع الشيخ الذي ادعت أنه زوجها، والقاضي الذي ذهب بعض ذهبه وحليّه سامحها فيه وقال: العوض على الله.
فقامت الستوت وأعطت بعض المال للحمّال وقالت له: هذا تعويض على ما ألحقته بك من قلع أسنانك، وأعطت الشيخ بعض المال أيضا يعين به نفسه في السوق، أما القاضي والتاجر فلم تعطهما شيئا وقالت لهما: أنتما أغنياء ولديكما الكثير من المال.
وبهذا أصبحت قصة الستوت على كل الألسن في كل مكان وزمان.
بقـرة اليتامى
في كل بيت، في كل قرية ومدينة يتذكر الكبار والصغار حكاية
الأوائل الذين صنعوا الحياة بأفراحها وأتراحها،، وبين مئات الحكايات التي
ترددها الجدات... من ذاكرة لأخرى ومن حكاية لحكاية نستلطف أعذب القصص
وأغربها عبر سالف الأزمنة، تتداولها الألسن لتكوّن جلسة من جلسات التسلية
والإثارة،، نقضي بها الساعات الطوال من الليل قرب الجدة.
"زينب" التي ما فتئت ذاكرتها المشحونة بصور حوادث مؤلمة
ومفرحة يستعيد تذكرها زفير الزمن، يبتهج لها الصبية المجتمعون حولها في صبر
وشوق وهي تسرد عليهم هذه الحكاية قائلة:
-آه يا أبنائي سأقص عليكم حكاية "بقرة اليتامى" القصة
التي أبكت الأجيال، قصة الإنسان الذي لعبت به الأقدار في سخرية دامعة،،
يردون عليها: -نعم،، نعم يا جدتي هيا بسرعة،،
الجدة:
تغمر السعادة قلب الرجل الساكن الكوخ،، تحت زقزقة
العصافير وزرقة السماء، ومع اخضرار الأرض تداعبه بسمات زوجته الحنون وهي
ترعى طفليها "ظريف ومرجانة" مع بقرتهما الصفراء، ذاك رزقهما في الدنيا
ينتفعان بحليبها... يجلسان بقربها، فتلامس بلسانها وجه "ظريف"، هذه
سعادتهما تتضاعف، وقهقهاتهما تتعالى والفرح يحيط عالمهما وهما يترعرعان في
حضن أبويهما الكريمين،، وتمر الأيام والليالي والقدر يكن للعائلة الصغيرة
الهادئة أموراً أخرى،،
فجأة تخور قوى الأم الرؤوم فتصبح طريحة الفراش،، تمزقها
سكاكين الوجع، تزيدها حرقة دموع طفليها وحسرة زوجها،، كانت الفتاة تسهر
بجانب والدتها تخفف حرارة جسمها، وأضعه قطعة من القماش مبللة بالماء البارد
على جبينها.. وما عسى "ظريف" أن يفعل سوى ذرف دموع حارقة شفقة على أمه
التي قد يفقدها إلى الأبد!! وتزداد الحمى ويشتد مرضها،، فتسلم روحها إلى
بارئها تاركة وراءها طفلين للوحدة والاغتراب،، لليتم والأحزان،،،،،
** *
الحزن دخل البيت دون استئذان،، شقاء وآلام مرة مرارة
العلقم ودموع من فيضها تجري كالوديان... ما أقساك يا زمن الفراق، صحيح أن
فراق الأحبة غربة،، وهكذا صار الطفلان كالعصفورين الصغيرين يبحثان عن أمهما
في قلب أبيهما،، وأضحى الكوخ حزيناً مكفهراً، الظلام الدّامس يسكنه في
رابعة النهار كما سكن أفئدة العائلة الجريحة كأنها طائر مهيض الجناح، الحزن
الأسود يخيم على الجميع، حتى البقرة أحست بفقدان صاحبتها فندر الحليب في
ضرعها...
** *
مرت السنون والعائلة بائسة تكاد رياح الشقاء تعصف بها.
رغب الأب عن الزواج بامرأة أخرى لأن زوجته الأولى لازالت
تحتل قلبه وتفكيره لكن حرصه على ولديه، ورعايتهما وتدبير شؤون البيت جعله
يفكر في الأمر مرة ثانية.
وتزوج الشيخ من امرأة ظن الخير في ناصيتها لكنها كانت تخفي تحت جمالها قلباً أسود أقسى من الحجر، قلباً لا يرحم ولا يلين.
أنجب الشيخ من زوجته بنتا سمّاها (عسلوجة) فتضاعف حقد
زوجة الأب على الطفلين (ظريف ومرجانة) اللذين كان يقضيان وقتيهما في النهار
مهملين جائعين، وعند المبيت يفترشان الثرى أو التبن قرب بقرتهما، يستمدان
العطف والحنان من نظراتها كما يستمدان الغذاء من حليبها الدسم فنما جسماهما
وتوردت خدودهما صحة وعافية وكان ذلك العطاء الحيواني تعويضاً للحرمان
الإنساني.. احتارت زوجة الأب في أمر (ظريف ومرجانة)، رغم حرمانها وإهمالها
لهما، يزدادان نمواً وجمالاً، وفي المقابل يعتري (عسلوجة) شحوب وهزال رغم
عنايتها الفائقة بها غذاء ولباساً ودلالاً. فسهرت لذلك الليالي تفكر باحثة
عن جواب شاف كاف للأسئلة المتهاطلة عليها كسيل الأمطار، لكنها لم تجد حلاً
للغز المفارقة التي تراها تزداد يومياً.
وفي أحد الأيام أوصت بنتها (عسلوجة) قائلة:
-رافقيهما إلى المرعى وارصدي حركاتهما لتخبريني من أي
مصدر يسترزقان، من أين يأكلان، لم تكن عسلوجة أقل من أمها حقداً وغيرة تجاه
أخويها (ظريف ومرجانة) مما جعل نار الحسد تشتعل في قلبها الصغير فيصعد
دخان اللهب إلى وجهها ليجعله أسود وهكذا ورثت (عسلوجة) من أمها صفة قبيحة
تميت صاحبها ببطء.
استجابت عسلوجة لطلب أمها بلهفة وراحت ترقب الطفلين عن بُعد...!!
كانت دهشتها كبيرة وهي ترى البقرة في منتصف النهار تقترب
منهما فيجثوان على ركبتيهما ثم يمسكان بضرعها لينهلا منه الحليب الصافي،
يرضعان مثل الصبيين التوأمين كأنهما يمتصان ثدي أمهما،، يا له من مشهد
رباني،،، ياله من موقف غريب عجيب،، حادث رائع، يدعو إلى التفكير في أسرار
هذه الحياة وسخرية الأقدار ببني الإنسان.
اندهشت البنت (عسلوجة) لما رأت ذلك، لكنها سرعان ما حاولت
تقليدهما،، تقدمت نحو البقرة وقبل أن تضع رأسها قرب الضرع صَكَّتْها
البقرة بحافرها فأصابت عينها اليمنى، وكان ذلك جزاء التجسس على الأبرياء..
وعادت البنت (عسلوجة) إلى أمها مغمضة العين باكية الأخرى فأخبرت والدتها
بما حدث لها وما شاهدت طول النهار.
اغتاظت الزوجة لما رأت وسمعت واشتد غضبها فعاقبت الطفلين
(ظريف ومرجانة) عقاباً شديداً وقررت التخلص من البقرة (أم اليتامى).
ها قد شرعت تفكر في حيلة تنصب شراكها لتنفيذ قرارها.
بدأت توحي بذلك إلى زوجها تمهيداً لإبلاغه القرار، وبعد ذلك بأيام طلبت منه ذلك جهاراً نهاراً، قائلة:
-أيها الزوج العزيز، يا شيخي الكريم، نحن لسنا في حاجة إلى البقرة.
ردَّ عليها في دهشة وغضب: -ماذا تقولين أيتها الحمقاء؟ أجننت؟ أنسيت حليبها ولبنها وسمنها؟!
قالت وهي تلح في جرأة وقحة:
-بعها واشتر لنا حماراً نركبه فيريحنا، إني كرهتها، إنها
متعبة، لا أريد رؤيتها بعد اليوم.. وباتا ليلتهما متخاصمين، يتجرعان مرارة
الخلاف...
وجاءت الأيام ومع إصرار الزوجة على رأيها تفتت موقف الشيخ الصلب وانصاع لرغبة "زوجته".....
في السوق الأسبوعي حيث ينعقد مؤتمر التجار والفلاحين
ويلتقي الغني بالفقير والفلاح بالأمير والأمين بالغرّير، كان الناس يحملون
السلل الحافلة بمختلف أنواع الخضر والفواكه الشهية التي منّت بها عليهم
الأرض.... فواكه لذيذة أنتجتها أيدي خشنة متجعدة، كما عرضت في السوق أواني
طينية أبدعتها أنامل النساء القرويات في أشكال منقوشة ومظاهر منحوتة وصور
مزركشة قشبية أخذت من أمنا الأرض زخرفتها.
تقول الجدة "زينب" ضاحكة:
-"لو كان ما لساني لحلاح ما خذيت المداح" هذا حال الدنيا
يا أكبادي، وهذه طبائع البشر كمعادن الأرض، فيها الذهب والفضة وفيها النحاس
والرصاص، توجد نساء عطوفات كالأمهات أو أكثر، لا تخافوا يا صغاري، يبتسم
الأطفال وتواصل الجدة سرد الحكاية، وهي تتثاءب واضعة راحة كفها على فمها من
حين لآخر:
من مطلع الفجر لبس الزوج عباءته البيضاء ورمى برنوسه
البني الطويل على كتفه ثم اتجه نحو الإسطبل ماسكاً الحبل بيديه المرتعشتين
ليضعه حول قرني بقرة اليتامى...
كانت البقرة في طريقها إلى السوق الأسبوعي تبكي بلا دموع
وكأنها عرفت مصيرها، بل أنها كانت تبدو حزينة لفراق الطفلين الأبدي.
عندما ابتسم الصبح حزيناً ذهبا إلى مكانها كالعادة لشرب حليب الصباح فوجدا المكان خالياً..
لم يجدا الكنز الذي تركته لهما أمهما فشعرا بموت أمهما مرة ثانية، وكأنها توفيت مرتين. فبكيا كثيراً...
كان الشيخ في طريقه يردد في نفسه كلمات يقصد بها زوجته:
-هي تقول وأنا أقول... هي تقول وأنا أقول حتى غلبتني
بالقول،،، لقد صدق من قال لكل داء دواء يستطب به إلاّ الحماقة أعيت من
يداويها يا ليتني تزوجت بالضاوية بنت المدّاح المرأة الكريمة العطوفة.
وفي باب السوق وجد الشيخ جزاراً يسوم الناس أبقارهم،
فباعه البقرة بأدنى ثمن وعاد إلى بيته حزيناً يدعو الله اللطف والرحمة
بصغيريه اللذين وجدهما مكان البقرة في حداد ينظران نحوه نظرات غريبة ممزوجة
بالعتاب والاستفهام...
استلقى الشيخ على فراشه ليلاً وبعد أرق وسهاد حرما على
جفونه النعاس استسلم للنوم فرأى في الحلم زوجته الأولى أم الطفلين تزوره
دامعة العينين وهي تقول له: سامحك الله.... لقد ضيعت الأمانة.
ثم تطلب منه الذهاب إلى الجزار لاسترجاع ضرع البقرة وقرنيها ووضعهم على قبرها في أقرب وقت لاحق.
قام الشيخ من نومه مفزوعاً ولبس عباءته في منتصف الليل،
ثم غادر بيته صامتاً وفي سرعة عجيبة هرول نحو دار الجزار، وأكمل الهزيع
الأخير أمام باب الجزار ينتظر خروجه.
استيقظ الجزار على نباح الكلب فوجد الشيخ على عتبة البيت
يرتعد من البرد، استغرب لحاله واستفسره عن رغبته، تعلق الشيخ بملابس الجزار
يقبل يديه ملتمساً منه إعطاءه ضرع البقرة وقرنيها.
كان الطلب غريباً كلن قلب الجزار رغم قسوته رقَّ لحال الشيخ واستجاب لرغبته وقدّم له ما أراد في تلك الصبيحة....
بيديه حمل الشيخ ضرع البقرة والحليب يسيل منه ممزوجاً
بالدم، ووضع قرنيها داخل قلمونة برنوسه، وسار في اتجاه المقبرة التي تنام
فيها زوجته الأولى، عندما وصل إلى قبرها حياها في حسرة وأسف، ثم وضع الضرع
على قبرها قرب حجر الشاهد، وغرس قرني البقرة بالقرب من القبر ثم انصرف إلى
بيته مسروراً بإرضاء زوجتيه معاً.
** *
يشتد الزمن على الطفلين بمرارته المتوالية مع الأيام، لقد
حزنا حزناً عميقاً لغياب بقرتهما، وها هو الجوع يضنيهما وزوجة أبيهما ترفض
الاستجابة لتوسلاتهما المنبعثة من معدتيهما الخاويتين،، شحب لون وجهيهما
وهزل جسماهما حتى صارا لا يُعرفان عند الناس...
في يوم من الأيام اشتد شوقهما لرؤية أمهما، فذهبا خفية
إلى مقبرة القرية يزوران قبر حبيبتهما ويشكوان لها حالهما،، وصلا إلى القبر
جائعين يلهثان من العطش فوجدا عليه ضرع البقرة يفيض حليباً دافئاً، كان
ينتظرهما كالعادة وبالقرب منه نخلتين باسقتين كثيرتا العراجين التمرية،
تأتي أكلها كلَّ حين.
احتضنا قبر أمهما فرحين مسرورين بلقائها وكأنهما يسمعان
صوتها ينبعث من تحت التراب ثم بكيا حتى تبلل تراب قبرها حينما تذكرا حضنها
الدافئ الحنون.
شربا الحليب وأكلا التمر حتى شبعا وارتويا ثم تحولا
بنظراتهما يتطلعان إلى السماء وإلى النخلتين في صورتهما الشبيهتين بقرني
البقرة، وبقي الطفلان اليتيمان طوال النهار يناجيان أمهما في مظهر إنساني
لا مثيل له.
قدم الطفلان إلى المكان مرة ثانية وثالثة، يرتادانه وقت
الحاجة حتى عادت النضرة إلى وجهيهما والسحر إلى محييهما والعافية لجسميهما
فعاود زوجة أبيهما الحسد والضغينة، وطلبت من ابنتها (عسلوجة) إعادة الكرة
مرّة ثانية، قبلت (عسلوجة) المهمة بغبطة وكأنها خلقت لفعل التجسس.
رافقت عسلوجة شقيقيها المغضوب عليهما إلى حيث يسيران،
كانا يتعمدان التمويه في سيرهما بين المزارع والحقول يريدان التخلص من
أسئلتها التحقيقية لكنها كانت مصممة على بغيتها. ويمر النهار عسيراً على
الطفلين رغم اللعب والمرح بعض الأحيان، ينتظران عودة (عسلوجة) إلى البيت
وقد أخذ منهما العياء والجوع،،، طلباً منها الرجوع فلم تقتنع حذراها من
مهالك الطريق الذي يسلكانه فلم تأبه لكلامهما... حاولا العودة إلى البيت
لكن الشوق والجوع والظمأ أرغموهما على الاتجاه نحو المقبرة...
كان الوقت أصيلاً وخلاله قهرهما الجوع فلم يستطيعا صبراً
وتوجها نحو الضرع والنخلتين يهزان جذعيهما فيتساقط الحب رطباً شهياً.
وانكشف السر.... تقدمت (عسلوجة) من الضرع المدرار وتجرعت خلسة قليلاً من
الحليب وأبقت جرعة في فمها، كما وضعت تحت شفتها السفلى شق تمرة ثم عادت نحو
البيت مسرعة لتجد أمها في انتظار التقرير الكامل المفصل عن المهمة الموكلة
لها.
باتت زوجة الأب تفكر في الأمر أرهقها التفكير ولم تجد
للموضوع حيلة ومع الصباح المشرق في ربوع القرية سمعت منادياً ينادي لبيع ما
لديه من كسوة وعقاقير،، إنه الدلاّل... ها قد جاء في موعده... هرعت إلى
بوابة الكوخ تسأله: ما في حوزتك لقطع النخلة؟ أجاب والعرق يتصبب من جبينه:
-القطران في عروق النخل، يقتل الجذور فتصبح سواكا وبخوراً.
أطربها جواب الدلاّل فاشترت منه ما يكفيها للفتك
بالنخلتين، واتجهت صوب المقبرة لاهثة، تحمل القطران في يدها والمكر في
قلبها، وما إن وصلت إلى النخلتين حتى بحثت عن جذورهما ودست فيهما القطران،
ثم أخذت ضرع البقرة ورمته خارج المقبرة للكلاب التي التهمته في الحين.
بعد عودتها إلى البيت مكثت صامتة صمت المذنبين، لا يرى
الرائي في عينيها الغائرتين غير علامات المكر والدهاء، أقبل الشيخ من عمله
متعباً وقد ضعف بصره وابيض شعره، واحدودب ظهره، وقبل أن يستريح وقفت في
وجهه صارخة تتصنع الغضب:
-هيا أبعدهما عني، إني كرهتهما؟
يتساءل العجوز في حيرة: -من تقصدين؟
قالت: -هما، اللذان تسببا في تعوير عين ابنتي عسلوجة.
** *
مع الصباح الباكر يجهز الشيخ ابنه ظريف وابنته مرجانة
للرحيل،،، قصدوا الغابة ترافقهم الدموع، وفي نهاية الدرب الزراعي الملتوي
قرب سفح الجبل ودّعهما الشيخ بشهقات حزينة وهو يضع في أيديهما قطعاً من
الخبز وكيساً مملوء بألبستهم وفراشهم... وعاد إلى البيت كئيباً،، عاد وحده
يبكي حرقة الوداع الأبدي..
ويسير الطفلان قاطعين الوهاد والجبال والأدغال، خارجين
بلاداً داخلين أخرى، هائمين على وجهيهما لا يعرفان لرحلتهما اتجاهاً معيناً
أو نهاية محدودة.. كان التعب قد أخذ موضعه منهما فجف ريقهما عطشاً والتوت
أمعاؤهما جوعاً وكادا يموتان عياءً وظمأ لولا إشرافهما على نهر جار يسمى
وادي السحر، بدا لهما من بعيد أملُ يائس وبسمة قائظ ومائدة نزلت من
السماء.. وعندما وصلا لاحظت مرجانة سائلاً سحرياً يختلط بالماء، فتذكرت قصة
الوادي السحري الذي يغسل الأبدان من الدنس ويحول شاربي مائه إلى غزلان!!
أسرع أخوها ظريف نحو النهر وانكب على الماء يريد إطفاء
نار العطش الملتهبة في حلقه لكن أخته منعته من الشرب وبصعوبة أبعدته عن
الماء وواصلا طريقهما.. توقف الطفل ظريف عن المشي وأخبر أخته بضياع قلادته
عند الوادي، قلادة الذكرى والتذكار، المهداة له من أمه العزيزة... سمحت له
أخته بالعودة للبحث عن قلادته وأوصته بالامتناع عن الشرب.
ورجع الطفل إلى النهر للبحث عن ضالته، لكن انسياب الماء
بين الحصى زلالاً صافياً أفقده الصبر فلم يتمالك نفسه وانهال على الماء
يعبه عباً، وفي لحظة، في رمشة عين، صار العجب! لقد تحول الطفل ظريف إلى
مخلوق آخر.. يشبه الغزال! اندهشت لذلك أخته وبكت بكاءً مراً ثم حزنت لذلك
حزناً عميقاً، واشتدت حيرتها على أخيها.. ها هي "مرجانة" جالسة تحت الشجرة
تمشط شعرها والطفل الغزال أمامها يرتشف جرعات الماء لا يدري ولا يدرك
حاله.. انسلت من شعرها الذهبي واحدة،، كانت طويلة في امتداد سالفها الطويل،
سقطت الشعرة في مجرى النهر فجرفها التيار وسرى يتلاعب بها مسافات بعيدة،
حتى توقفت فجأة بين أنامل يد بشرية،، إنها يد سلطان البلاد..
** *
منذ حين كان السلطان يتجول في رحلة صيد يصحبه الجند وسط
الأدغال والأحراش وعند الظهيرة أراد الاستحمام بماء النهر الدافئ استعداداً
لتناول وجبة الغذاء الدسمة، جلس على ضفة النهر ووضع يده في الماء يعاكس
التيار الجاري مستلذاً بانسياب الماء بين أصابعه كسريان النسيم العليل بين
السنابل، عندما حمل السلطان الشعرة في كفه كانت أشعة الشمس تنعكس عليها
فتماوجت ألوانها في منظر سحري بديع، تفحص وتمحص الشعرة الذهبية كثيراً
وبفراسة الأذكياء عرف أن الشعرة لفتاة رائعة الجمال كريمة النسب عالية
الخلق.
وقف الملك صامتاً ثم اعتلى صهوة جواده الأصيل، فاجتمعت حاشيته حوله تنتظر الأوامر،،، قدّم لهم الشعرة قائلاً:
-جاءت مع الماء،،، أريد رؤية صاحبتها في أقرب وقت.
وبعد هنيهة من الزمن كان الجند يسلكون ضفتي النهر قاصدين
منابع الماء للوصول إلى صاحبة الشعرة الذهبية،،، وجدوا في طريقهم نساء
كثيرات يغسلن ثيابهن وينشرنها على الشجيرات القريبة من النهر كما شاهدوا
فتيات عذارى يستحممن بماء النهر وقد أفزعهن قدوم الجند بغتة من حيث لا
يدرين. وظل الجنود يسعون، يقارنون الشعرة الذهبية بشعر كل أنثى يصادفونها
في طريقهم حتى اشتغل الناس بالأمر واحتارت النساء لذلك وتوقفت خطوات الجند
على رأس النهر، حيث منابعه الأولى ولم يجدوا لصاحبة الشعرة الذهبية سبيلاً
ولا أثراً، فعادوا إلى السلطان خائبين بعد أسبوع من البحث الدقيق،
والاستطلاع الواسع.
اغتمّ السلطان لمّا علم بالأمر، واستسلم لتفكير طويل،
يسائل نفسه ويعاتب تاجه ووزراءه عن عجز سلطانه في الوصول إلى شيء بسيط في
مملكته وهو الآمر النّاهي...
ومرت الأيام فانشغل بأمور الرعية محاولاً تسلية نفسه،
لنسيان صاحبة الشعرة الذهبية الغريبة،،، لكنه لم ينس إخفاء الشعرة في
صندوقه الخاص مع لوازمه السرية.....
** *
ها هي الفتاة مرجانة تمشي وأخوها الطفل الغزال ظريف
يتبعها في مشهد غريب حقاً،،، وفي غمرة حيرتها الكبرى شاهدت كوخاً قديماً
يتوسط الأشجار فأسرعت بها قدماها نحوه، إنه لعجوز طيبة تعيش من الأعشاب
والعقاقير التي تحضرها إلى الدّلال كل صباح، عندما يأتي وعلى كتفه "الشوال"
وهو ينادي:
-غذاؤك دواؤك، هات ما عندك أعطيك ما عندي،،، البيع لا والمبادلات نعم.
فتقدم له العجوز الحشائش والعقاقير النافعة للعلاج مستبدلة إياها بالقمح والشعير والزيت.
رحبت بالطفلة التي جاءت تريد الخبز والماء لها ولأخيها.
تستغرب العجوز ثم تسأل:
-أين أخوك؟
وقصّت عليها مرجانة الحكاية من البداية إلى النهاية.
أسرعت العجوز إلى مربط الجديان وأطلقت الغزال من ربقة
القيد، بعد أن عرفت قصته، فجاء مسرعاً ليقف قرب أخته، وقدمت لهما العجوز
الخبز والعسل والتفاح ثم قالت لهما:
-لا تيأسا من رحمة الله،، أنا أمكما الآن... ثم نظرت إلى السماء وهي تقول:
-شكراً أيتها العناية الإلهية لقد حققت حلمي،،، حلمي الدفين منذ سنين.
عمّ الخير البلدة بحلولهما على بيت العجوز فنزل الغيث
وتفجرت الينابيع المائية واخضرت الأرض الفلاحية، وغمرت خيمتها الأرزاق.
ويأتي الدلاّل يأخذ طبق الأعشاب فيجد بداخله ذهباً،،،
استمر الحال شهوراً والدلاّل فرح ومتعجب، لكن الاستغراب كان يملأ خاطره
ويشغل باله،، فقرر بعد سنين اطلاع السلطان على هذا السر العجيب... الأعشاب
تصير ذهباً والصيف يصبح ربيعاً؟؟؟........
** *
زوجة الأب وابنتها عسلوجة يقرران الرحيل والشيخ يمانع وقد
ظنّ أن يد الأقدار تعيد له طفليه، حاول الامتناع لكن إصرار زوجته وتهديدها
له بتظليمه لدى الحاكم زورا والوشاية بأنه لا يدفع الضريبة السنوية على
أفراد عائلته، أخضعاه للأمر الواقع.... وسافرا الثلاثة إلى غير رجعة تاركين
البيت أطلالاً، جدراناً طينية تتلاعب الرياح بسقفها النباتي.
أصبح الدلاّل من الأغنياء لكنه لم ينقطع عن الدلالة، ها
هو يدخل قصر السلطان الواسعة أرجاؤه ويطلب من الحرس السماح له بمقابلة
السلطان، بعد محاولات كان له ما أراد، يطأطئ رأسه، محيياً السلطان، بقوله:
-العظمة والجلالة لمولانا السلطان (يشير عليه السلطان بيده اليمنى قائلاً):
-هات ما عندك أيها الرجل، إن كنت مظلوماً فأنا منصفك وإن كنت مسلوب الحق أنا راده لك... انشر ما في صدرك...
الدلاّل مبتسماً:
-عفوك أيها السلطان، لا هذا ولا ذاك، إن سبب حضوري، واقعة أذهلتني وأطلب من مولاي السلطان السماح بسرد قصة العشب الذهبي.
(يشجعه السلطان بإيحاء من ملامحه، فيطلق الدلاّل العنان
للسانه يصول ويجول واصفاً الزمان والمكان بأوصاف شتى أثارت فضول السلطان
وحركت فيه سلطة القرار فأمر أحد حجابه بإحضار العجوز ومن معها قبل غروب شمس
ذلك اليوم).
وغابت الشمس في الأفق وفي القصر أشرقت شمس أخرى إنها
الفتاة مرجانة رفقة العجوز وأخيها الغزال أدخلهم حاجب القصر، فبهت السلطان
لجمالها الباهر، كان سحرها يسري في النفوس كالموج في امتداده، جاء السلطان
في الحين بالشعرة الذهبية وقارنها بشعر الفتاة فإذا بها تشبهه..
-يا لها من صدفة عجيبة!!
قالها السلطان وهو يهش لوجودهم بالقصر... ثم أكرم حضورهم وطلب منهم الإقامة في جناح الضيافة ثلاثة شهور لعلاج الغزال.
وجاء يوم الصبح الثاني ومعه وفود الأطباء والعلماء
والعارفين بعلوم الدين، كانوا يصلون زرفات ووحدانا تلبية للنداء العاجل
الذي أصدره السلطان إلى عمّاله في الأقاليم، ومع الأصيل كانت ساحة القصر
تعج بذوي الأفهام والعقول النيرة والعارفين بسداد الرأي في الطب والحكمة،
ها هم ينتظرون ظهور السلطان، أعناقهم تشرئب إلى الشرفة المهيأة له لمعرفة
سر جمعهم.
وبعد زمن قصير أطل السلطان وحياهم بإشارة من يده ثم أمر
حاجبه إحضار الغزال فأحضره في الحين، توجه السلطان بخطاب مطول للحاضرين
تحدث فيه عن الحياة وأسرارها والخالق وقدرته، ثم طلب من الجميع البحث عن
علاج للطفل الغزال كي يعود لصفته البشرية خلقة وخلقاً، لم يخف الحاضرون
اندهاشهم وراحوا يسبحون ويحوقلون.. تناظروا فيما بينهم وشرعوا في التفكير
والبحث وإجراء التجارب..
خلال فترة العلاج والضيافة أعجب السلطان بالفتاة مرجانة
سلوكاً وجمالاً وتعلق قلبه بها، فعرض عليها الزواج... وافقت الفتاة مرجانة
لكن مهرها كان غالياً، إذ طلبت من السلطان الوعد بعلاج أخيها حتى الشفاء
التام، وقبل السلطان شرطها،، فأقاما عرساً بهيجاً رقص فيه الغزال كثيراً
وعاشا أياماً سعيدة وعيشاً رغيداً تملؤه المودة والرحمة ويزينه التفاهم...
** *
من مرافق القصر الترفيهية المتحف الحيواني الذي يجمع في
أروقته أصنافاً عديدة من الحيوانات الأليفة والمتوحشة، زاره السلطان رفقة
زوجته فسرّت بما رأت وقالت في نفسها عندما مرت بجناح الغزلان:
-ربما يوجد في هذا السجن الحيواني من كان إنساناً وشرب
الماء السحري فتحول إلى غزال، وصارت تتردد على هذا الجناح كل أسبوع تبحث عن
سرّ ما.
** *
وفي يوم من الأيام اضطر السلطان للسفر، فأخبر زوجته بعزمه
ثم وضع في أصبع من يدها اليسرى خاتم السلطنة، وأوصاها باستعماله عند
الضرورة.. ودّعها ومشى فشيعته بنظرات ينبعث منها الحب والاعتزاز، ثم عادت
إلى جناحها كي تستريح قليلاً ولتختلي بنفسها فتنظر إلى بطنها المنتفخ،
مبهورة بالحمل، فخورة متشوقة للمولود الأول، الذي ستأتي به هدية إلى
السلطان بعد عودته..
في غياب السلطان عن قصره جاء فقير في ثياب بالية يطلب
صدقة، كان الوقت أصيلاً، إنه الزمن الذي تخرج السلطانة إلى شرفتها تتأمل
الكون وتودع الشمس وهي تلبس عباءتها الصفراء مستعدة للنوم خلف الأفق، وقع
بصرها على السائل يرفع يده نحوها، فاقشعر جسمها وأحست بشعور غريب يغمرها،
طلبت من الحراس إدخاله إلى الساحة... نزلت من الطابق العلوي مسرعة واقتربتَ
منه فتعرفت عليه... نعم هو أبوها العجوز.. عانقته فاحتضنها وبكيا، أطعمته
حتى شبع وسقته حتى ارتوى وألبسته أزهى الثياب حتى دفئ وشعر بالراحة
والطمأنينة، وحدثته كثيراً عن رحلة العذاب والمتاعب فقال لها بصوت حنون:
-إن دوام الحال من المحال، وإن الله مع الصابرين.
وعندما أراد مغادرة القصر وضعت مرجانة في يده كيس فطائر
محشوة باللحم ثم التمست منه عدم فتح الكيس قبل الوصول إلى البيت مع حفظ سر
وجودها عن زوجته وابنته.
وعاد الشيخ إلى زوجته وابنته فرحاً مسروراً وحائراً في
أمر ابنه الغزال ظريف... فتحت الزوجة وابنتها الكيس فإذا الذهب يتدفق من
بين الفطائر، قطع تتساقط فتحدث رنيناً وتلمع فيتحول البريق إلى توهج يثير
النفوس الطامعة.
طلبت المرأة من زوجها الذهاب إلى السلطانة لشكرها رغبة
منها في المزيد من الذهب، ولم يمانع الشيخ لأنه تعود الطاعة والانصياع وعلم
أن مقاومته لها ستبوء بالفشل لا محالة.. وفي اليوم الموالي ذهبا ترافقهما
ابنتهما (عسلوجة)، وكم كانت المفاجأة كبيرة للزوجة وابنتها عندما تعرفا على
السلطانة التي أكرمت ضيافتهم جميعاً، ندما وطلبا منها على العفو وكان لهما
ذلك.
وبعد ضيافة ثلاثة أيام قرر الشيخ العجوز أخذ زوجته وابنته
(عسلوجة)، ومغادرة القصر خشية وقوع ابنته السلطانة ضحية مكر جديد تدبره
لها زوجته... وعندما علمت السلطانة مرجانة بقراره وافقته لكنها طلبت منه
السماح لعسلوجة بالبقاء معها في القصر أياماً.. فكان لها ما أرادت..
** *
ذات ضحى يوم جلست السلطانة مرجانة في حديقة القصر على
حافة البئر تتأمل هندسته الرائعة وبجانبها أختها عسلوجة، ثم شرعت مرجانة في
تسريح الشعر الذهبي، المتماوج الألوان، وأثناء ذلك استيقظ في قلب عسلوجة
هاجس المكر القديم واشتعلت نار الغيرة في فؤادها فأظلمت الدنيا أمام
عينيها، ولم تشعر بالراحة إلاّ بعد أن دفعت بالسلطانة إلى أعماق البئر ثم
عادت إلى جناح الخدم بالقصر هادئة النفس كأنها لم تفعل شيئاً، بل طلبت منهم
سبع قدور لتقديم الغزال وجبة شهية توضع على مائدة السلطان العائد من سفره
البارحة فقط.
لكن الغزال عندما رأى ما رأى من قدور نطق فزعاً وأسرع نحو جناح السلطان فأيقظه من نومه وهو يقول:
-دعوني... دعوني... أودع أختي، أذهب إليها في البئر، ثم افعلوا ما شئتم!! وأغمي عليه لعدة ساعات.
(يا خويا، يا ولد أما وبابا سبع قدور تتغالى سبع مواس
تتسانى هكذا كانت السلطانة ترثي أخاها الغزال من داخل البئر باكية شاكية في
حزن، بعدما سمعت الحرس يتحدثون في أمر ذبح الغزال دون أن ينتبهوا لها)،
حاولت مناداتهم لكن حنجرتها لم تقو على التصويت لهول ما وقع لها عند رميها
في البئر... حتى إنها وضعت حملها، توأمين داخل البئر،،، وبقدر فرحها الشديد
بهما كانت خائفة عليهما من أذى الماكرين...
أعلن السلطان حالة الطوارئ في البلاد وأخبر الجيش
بالكارثة فهلع كل من سمع الخبر، توجه الجميع للبحث عن زوجة السلطان في آبار
المدينة، بينما ذهب بنفسه إلى بئر عتيقة محفوفة بالحشائش في إحدى حدائق
القصر، وقف ينظر داخلها، وصل مسمعه صوت الألم المنبعث من أعماق البئر
ممزوجاً بأنين الحزن وسمع صوت وليد يبكي صباه، لم يتمالك السلطان نفسه
فحاول الارتماء في البئر لإنقاذ زوجته المشرفة على الهلاك لكن حراسه كانوا
أسبق منه إلى دخول البئر المرعبة وبعد حين من الجهد والمعاناة خرج الجميع
من البئر في حالة يرثى لها.
كان المشهد مؤثراً، والموقف عصيباً وكانت المفاجأة كبيرة
عند رؤية الصبيين يتعلقان بثديي أمهما، احتضن السلطان زوجته النفساء مع
الصبيين، احتضنهم جميعاً ثم حمل الطفلين الجميلين بفرح كبير وأعلن إنهاء
حالة الطوارئ وإقامة الاحتفالات في كل الأقاليم تكريماً لزوجته ولبنيه...
وكان عقاب الفتاة عسلوجة على فعلتها الشنعاء النفي الدائم خارج السلطنة،
بينما اختار والد السلطانة مرجانة البقاء قرب حفيديه الصغيرين يرعاهما
ويتأمل نموهما.
تزامنت الاحتفالات بوضع العلماء والأطباء اللمسات الأخيرة لبحوثهم وتجاربهم حول إبطال مفعول الماء المسحور.
وفي غمرة البهجة والسرور بنجاة السلطانة من الموت المحقق
وبازدياد الأميرين الصغيرين أعلن العلماء والأطباء والحكمة عن اكتشاف دواء
جديد يعيد للشاب ظريف الغزال هيئته البشرية الأولى التي كان عليها قبل أن
يشرب من وادي السحر، فأطرب هذا الخبر العائلة الحاكمة وكل من كان في
البلاد، وقدّم العقار إلى الغزال ظريف في الحين وبمجرد تناوله مع جرعة من
زيت الزيتون بدأت صفاته الجسمية تتغير والعلماء يشاهدون.
كانوا جميعاً في المخبر الملكي في صمت رهيب كأن الطير على
رؤوسهم وما هي إلاّ دقائق حتى عاد الشاب إلى حالته الطبيعية. إنسان جميل،
شاب في مقتبل العمر،، بهي الطلعة وسيم الوجه،،، فازدادت الفرحة في القصر
وتعانق الجميع، السلطان مع السلطانة والشيخ وابنه ظريف ومعهم الصبيان
الصغيران...
تنفست الجدة (زينب) الصعداء وهي تشرف على نهاية الحكاية الأسطورة، ثم قالت:
-وهكذا يا أحفادي الأعزاء،، عاش الجميع في سعادة وهناء
ردحاً طويلاً من الدهر، إلى أن حضر "هادم اللذات وميتم البنين والبنات،
مخرب القصور ومعمر القبور" فمات من مات وعاش من عاش وسبحان الحي الذي لا
يموت)...
ثم تفقدت الصغار فوجدتهم نائمين، فنامت بالقرب منهم بعد أن قالت:
-هكذا ينامون كلّ ليلة وفي الليلة المقبلة يطالبونني بإعادة الحكاية، ثم استدركت قائلة:
-إنها الطفولة.... يحكمها قانون عجيب!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق