الخميس، 25 يوليو 2013

درويشيات اروع قطاف من شجرة الاديب الفلسطيني محمود درويش






وعود من العاصفة
محمود درويش - فلسطين
 
وليكن
لا بدّ لي أن أرفض الموت
وأن أحرق دمع الأغنيات الراعفةْ
وأُعري شجر الزيتون من كل الغصون الزائفة
فإذا كنت أغني للفرح
خلف أجفان العيون الخائفة
فلأن العاصفة
وعدتني بنبيذ
وبأنخاب جديدة
وبأقواس قزح
ولأن العاصفة
كنّست صوت العصافير البليدة
والغصون المستعارة
عن جذوع الشجرات الواقفة

وليكن ...
لا بد لي أن أتباهى بك يا جرح المدينة
أنت يا لوحة برق في ليالينا الحزينة
يعبس الشارع في وجهي
فتحميني من الظل ونظرات الضغينة

سأغني للفرح
خلف أجفان العيون الخائفة
منذ هبّت في بلادي العاصفة
وعدتني بنبيذ وبأقواس قزح



قصيدة الأرض
محمود درويش - فلسطين

-1
-

في شهر آذار، في سنة الإنتفاضة، قالت لنا الأرضُ أسرارها الدموية. في شهر آذار مرّت أمام البنفسج والبندقيّة خمس بنات. وقفن على باب مدرسة إبتدائية، واشتعلن مع الورد والزعتر البلديّ. افتتحن نشيد التراب. دخلن العناق النهائي – آذار يأتي إلى الأرض من باطن الأرض يأتي، ومن رقصة الفتيات – البنفسج مال قليلاً ليعبر صوت البنات. العصافيرُ مدّت مناقيرها في اتّجاه النشيد وقلبي.

أنا الأرض
والأرض أنت
خديجةُ! لا تغلقي الباب
لا تدخلي في الغياب
سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل
سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل
سنطردهم من هواء الجليل.
وفي شهر آذار، مرّت أمام البنفسج والبندقيّة خمس بناتٍ. سقطن على باب مدرسةٍ إبتدائيةٍ. للطباشير فوق الأصابع لونُ العصافيرِ. في شهر آذار قالت لنا الأرض أسرارها.

-2-

أُسمّي الترابَ امتداداً لروحي
أُسمّي يديّ رصيفَ الجروح
أُسمّي الحصى أجنحة
أسمّي العصافير لوزاً وتين
وأستلّ من تينة الصدر غصناً
وأقذفهُ كالحجرْ
وأنسفُ دبّابةَ الفاتحين.

-3-

وفي شهر آذار، قبل ثلاثين عاما وخمس حروب،
وُلدتُ على كومة من حشيش القبور المضيء.
أبي كان في قبضة الإنجليز. وأمي تربّي جديلتها وامتدادي على العشب. كنت أحبّ "جراح الحبيب" و أجمعها في جيوبي، فتذبلُ عند الظهيرة، مرّ الرصاص على قمري الليلكي فلم ينكسر،
غير أنّ الزمان يمرّ على قمري الليلكي فيسقطُ سهواً...
وفي شهر آذار نمتدّ في الأرض
في شهر آذار تنتشرُ الأرض فينا
مواعيد غامضةً
واحتفالاً بسيطاً
ونكتشف البحر تحت النوافذ
والقمر الليلكي على السرو
في شهر آذار ندخلُ أوّل سجنٍ وندخلُ أوّل حبّ
وتنهمرُ الذكريات على قرية في السياج
وُلدنا هناك ولم نتجاوز ظلال السفرجل
كيف تفرّين من سُبُلي يا ظلال السفرجل؟
في شهر آذار ندخلُ أوّل حبٍّ
وندخلُ أوّل سجنٍ
وتنبلجُ الذكريات عشاءً من اللغة العربية:
قال لي الحبّ يوماً: دخلت إلى الحلم وحدي فضعتُ وضاع بي الحلم. قلت تكاثرْ!
تر النهر يمشي إليك.
وفي شهر آذار تكتشف الأرض أنهارها.

-4-

بلادي البعيدة عنّي.. كقلبي!
بلادي القريبة مني.. كسجني!
لماذا أغنّي
مكاناً، ووجهي مكانْ؟
لماذا أغنّي
لطفل ينامُ على الزعفران؟
وفي طرف النوم خنجر
وأُمي تناولني صدرها
وتموتُ أمامي
بنسمةِ عنبر؟
 
-5-

وفي شهر آذار تستيقظ الخيل
سيّدتي الأرض!
أيّ نشيدٍ سيمشي على بطنك المتموّج، بعدي؟
وأيّ نشيدٍ يلائم هذا الندى والبخور
كأنّ الهياكل تستفسرُ الآن عن أنبياء فلسطين في بدئها المتواصل
هذا اخضرار المدى واحمرار الحجارة-
هذا نشيدي
وهذا خروجُ المسيح من الجرح والريح
أخضر مثل النبات يغطّي مساميره وقيودي
وهذا نشيدي
وهذا صعودُ الفتى العربيّ إلى الحلم والقدس.
في شهر آذار تستيقظ الخيلُ.
سيّدتي الأرض!
والقمم اللّولبية تبسطها الخيلُ سجّادةً للصلاةِ السريعةِ
بين الرماح وبين دمي.
نصف دائرةٍ ترجعُ الخيلُ قوسا
ويلمعُ وجهي ووجهك حيفا وعُرسا
وفي شهر آذار ينخفضُ البحر عن أرضنا المستطيلة مثل
حصانٍ على وترِ الجنس
في شهر آذار ينتفضُ الجنسُ في شجر الساحل العربي
وللموج أن يحبس الموج ... أن يتموّج...أن
يتزوّج .. أو يتضرّح بالقطن
أرجوك – سيّدتي الأرض – أن تسكنيني صهيلك
أرجوك أن تدفنيني مع الفتيات الصغيرات بين البنفسج والبندقية
أرجوك – سيدتي الأرض – أن تخصبي عمري المتمايل بين سؤالين: كيف؟ وأين؟
وهذا ربيعي الطليعي
وهذا ربيعي النهائيّ
في شهر آذار زوّجتُ الأرضُ أشجارها.

-6-

كأنّي أعود إلى ما مضى
كأنّي أسيرُ أمامي
وبين البلاط وبين الرضا
أعيدُ انسجامي
أنا ولد الكلمات البسيطة
وشهيدُ الخريطة
أنا زهرةُ المشمش العائلية.
فيا أيّها القابضون على طرف المستحيل
من البدء حتّى الجليل
أعيدوا إليّ يديّ
أعيدوا إليّ الهويّة!

-7-

وفي شهر آذار تأتي الظلال حريرية والغزاة بدون ظلال
وتأتي العصافير غامضةً كاعتراف البنات
وواضحة كالحقول
العصافير ظلّ الحقول على القلب والكلمات.
خديجة!
- أين حفيداتك الذاهباتُ إلى حبّهن الجديد؟
- ذهبن ليقطفن بعض الحجارة-
قالت خديجة وهي تحثّ الندى خلفهنّ.
وفي شهر آذار يمشي التراب دماً طازجاً في الظهيرة. خمس بناتٍ يخبّئن حقلاً من القمح تحت الضفيرة. يقرأن مطلع أنشودةٍ على دوالي الخليل، ويكتبن خمس رسائل:
تحيا بلادي
من الصفر حتّى الجليل
ويحلمن بالقدس بعد امتحان الربيع وطرد الغزاة.
خديجةُ! لا تغلقي الباب خلفك
لا تذهبي في السحاب
ستمطر هذا النهار
ستمطرُ هذا النهار رصاصاً
ستمطرُ هذا النهار!
وفي شهر آذار، في سنة الانتفاضة، قالت لنا الأرض أسرارها الدّمويّة: خمسُ بناتٍ على باب مدرسةٍ ابتدائية يقتحمن جنود المظلاّت. يسطعُ بيتٌ من الشعر أخضر... أخضر. خمسُ بناتٍ على باب مدرسة إبتدائيّة ينكسرن مرايا مرايا
البناتُ مرايا البلاد على القلب..
في شهر آذار أحرقت الأرض أزهارها.

-8-

أنا شاهدُ المذبحة
وشهيد الخريطة
أنا ولد الكلماتُ البسيطة
رأيتُ الحصى أجنحة
رأيت الندى أسلحة
عندما أغلقوا باب قلبي عليّا
وأقاموا الحواجز فيّا
ومنع التجوّل
صار قلبي حارةْ
وضلوعي حجارةْ
وأطلّ القرنفل
وأطلّ القرنفل
 
-9-

وفي شهر آذار رائحةٌ للنباتات. هذا زواجُ العناصر. "آذار أقسى الشهور" وأكثرها شبقاً. أيّ سيفٍ سيعبرُ بين شهيقي وبين زفيري ولا يتكسّرُ ! هذا عناقي الزّراعيّ في ذروة الحب. هذا انطلاقي إلى العمر.
فاشتبكي يا نباتات واشتركي في انتفاضة جسمي، وعودة حلمي إلى جسدي
سوف تنفجرُ الأرضُ حين أُحقّقُ هذا الصراخ المكبّل بالريّ والخجل القرويّ.
وفي شهر آذار نأتي إلى هوس الذكريات، وتنمو علينا النباتات صاعدةً في اتّجاهات كلّ البدايات. هذا نموُّ التداعي. أُسمّي صعودي إلى الزنزلخت التداعي. رأيت فتاةً على شاطئ البحر قبل ثلاثين عاماً وقلتُ: أنا الموجُ، فابتعدتْ في التداعي. رأيتُ شهيدين يستمعان إلى البحر: عكّا تجئ مع الموج.
عكّا تروح مع الموج. وابتعدا في التداعي.
ومالت خديجة نحو الندى، فاحترقت. خديجة! لا تغلقي الباب!
إن الشعوب ستدخلُ هذا الكتاب وتأفل شمسُ أريحا بدونِ طقوس.
فيا وطن الأنبياء...تكامل!
ويا وطن الزارعين .. تكاملْ!
ويا وطن الشهداء.. . تكامل!
ويا وطن الضائعين .. تكامل!
فكلّ شعاب الجبال امتدادٌ لهذا النشيد.
وكلّ الأناشيد فيك امتدادٌ لزيتونة زمّلتني.

-10-

مساءٌ صغيرٌ على قريةٍ مهملة
وعيناك نائمتان
أعودُ ثلاثين عاماً
وخمس حروبٍ
وأشهدُ أنّ الزمانْ
يخبّئ لي سنبلة
يغنّي المغنّي
عن النار والغرباء
وكان المساءُ مساء
وكان المغنّي يغنّي
ويستجوبونه:
لماذا تغنّي؟
يردّ عليهم:
لأنّي أغنّي
.....
وقد فتّشوا صدرهُ
فلم يجدوا غير قلبه
وقد فتّشوا قلبه
فلم يجدوا غير شعبه
وقد فتشوا صوته
فلم يجدوا غير حزنه
وقد فتّشوا حزنه
فلم يجدوا غير سجنه
وقد فتّشوا سجنه
فلم يجدوا غيرهم في القيود
وراء التّلال
ينامُ المغنّي وحيداً
وفي شهر آذار
تصعدُ منه الظلال
 
-11-

أنا الأملُ والسهلُ والرحبُ – قالت لي الأرضُ والعشبُ مثل التحيّة في الفجر
هذا احتمالُ الذهاب إلى العمر خلف خديجة. لم يزرعوني لكي يحصدوني
يريد الهواء الجليليّ أن يتكلّم عنّي، فينعسُ عند خديجة
يريد الغزال الجليليّ أن يهدم اليوم سجني، فيحرسُ ظلّ خديجة وهي تميل على نارها.
يا خديجةُ! إنّي رأيتُ .. وصدّقتُ رؤياي تأخذني في مداها وتأخذني في هواها. أنا العاشق الأبديّ، السجين البديهيّ. يقتبس البرتقالُ اخضراري ويصبحُ هاجسَ يافا
أنا الأرضُ منذ عرفت خديجة
لم يعرفوني لكي يقتلوني
بوسع النبات الجليليّ أن يترعرع بين أصابع كفّي ويرسم هذا المكان الموزّع بين اجتهادي وحبّ خديجة
هذا احتمال الذهاب الجديد إلى العمر من شهر آذار حتّى رحيل الهواء عن الأرض
هذا الترابُ ترابي
وهذا السحابُ سحابي
وهذا جبين خديجة
أنا العاشقُ الأبديّ – السجينُ البديهيّ
رائحة الأرض توقظني في الصباح المبكّر..
قيدي الحديديّ يوقظها في المساء المبكّر
هذا احتمال الذهابِ الجديد إلى العمر،
لا يسأل الذاهبون إلى العمر عن عمرهم
يسألون عن الأرض: هل نهضت
طفلتي الأرض!
هل عرفوك لكي يذبحوك؟
وهل قيّدوك بأحلامنا فانحدرت إلى جرحنا في الشتاء؟
وهل عرفوك لكي يذبحوك
وهل قيّدوك بأحلامهم فارتفعت إلى حلمنا في الربيع؟
أنا الأرض..
يا أيّها الذاهبون إلى حبّة القمح في مهدها
احرثوا جسدي!
أيّها الذاهبون إلى صخرة القدس
مرّوا على جسدي
أيّها العابرون على جسدي
لن تمرّوا
أنا الأرضُ في جسدٍ
لن تمرّوا
أنا الأرض في صحوها
لن تمرّوا
أنا الأرض. يا أيّها العابرون على الأرض في صحوها
لن تمرّوا
لن تمرّوا
لن تمرّوا!
أربعة عناوين شخصية
محمود درويش - فلسطين
 
1 - متر مربع في السجن
 
هو البابُ، ما خلفه جنَّةُ القلب. أشياؤنا
- كُلُّ شيء لنا - تتماهى. وبابٌ هو الباب،
بابُ الكنايةِ، باب الحكاية. بابٌ يُهذِّب أيلولَ.
بابٌ يعيد الحقولَ إلى أوَّل القمحِ.
لا بابَ للبابِ لكنني أستطيع الدخول إلى خارجي
عاشقًا ما أراهُ وما لا أراهُ
أفي الأرض هذا الدلالُ وهذا الجمالُ ولا بابَ للبابِ؟
زنزانتي لا تضيء سوى داخلي..
وسلامٌ عليَّ، سلامٌ على حائط الصوتِ
ألَّفْتُ عشرَ قصائدَ في مدْح حريتي ههنا أو هناك
أُحبُّ فُتاتَ السماءِ التي تتسلل من كُوَّة السجن مترًا من الضوء تسبح فيه الخيول،
وأشياءَ أمِّي الصغيرة..
رائحةَ البُنِّ في ثوبها حين تفتح باب النهار لسرب الدجاجِ
أُحبُّ الطبيعةَ بين الخريفِ وبين الشتاءِ
وأبناءَ سجَّانِنا، والمجلاَّت فوق الرصيف البعيدِ
وألَّفْتُ عشرين أُغنيةً في هجاء المكان الذي لا مكان لنا فيهِ
حُرّيتي: أن أكونَ كما لا يريدون لي أن أكونَ
وحريتي: أنْ أوسِّع زنزانتي: أن أُواصل أغنيةَ البابِ
بابٌ هو البابُ: لا بابَ للبابِ
لكنني أستطيع الخروج إلى داخلي، إلخ.. إلخ..

2- مقعدٌ في قطار

مناديلُ ليست لنا
عاشقاتُ الثواني الأخيرةِ
ضوءُ المحطة
وردٌ يُضَلِّل قلبًا يُفَتِّش عن معطفٍ للحنانِ
دموعٌ تخونُ الرصيفَ. أساطيرُ ليست لنا
من هنا سافروا، هل لنا من هناك لنفرحَ عند الوصول؟
زنابقُ ليست لنا كي نُقَبِّل خط الحديد
نسافر بحثًا عن الصِّفْر
لكننا لا نحبُّ القطارات حين تكون المحطات منفى جديدًا
مصابيحُ ليستْ لنا كي نرى حُبَّنا واقفًا في انتظار الدخانِ
قطارٌ سريعٌ يَقُصُّ البحيراتِ
في كُل جيبٍ مفاتيحُ بيتٍ وصورةُ عائلةٍ
كُلُّ أهلِ القطارِ يعودون للأهلِ، لكننا لا نعودُ إلى أي بيتٍ
نسافرُ بحثًا عن الصفرْ كي نستعيد صواب الفراش
نوافذُ ليستْ لنا، والسلامُ علينا بكُلِّ اللغات
تُرى، كانت الأرضُ أوضحَ حين ركبنا الخيولَ القديمةَ؟
أين الخيول، وأين عذارى الأغاني، وأين أغاني الطبيعة فينا؟
بعيدٌ أنا عن بعيديَ
ما أبعد الحبّ! تصطادنا الفتياتُ السريعاتُ مثل لصوصِ البضائعِ
ننسى العناوين فوقَ زجاج القطاراتِ
نحن الذين نحبُّ لعشر دقائقَ لا نستطيع الرجوعَ إلى أي بيتٍ دخلناه
لا نستطيع عبور الصدى مرتين

3 - حجرة العناية الفائقة

تدورُ بيَ الريحُ حين تضيقُ بيَ الأرضُ
لا بُدَّ لي أن أطيرَ وأن ألجُمَ الريحَ
لكنني آدميٌّ.. شعرتُ بمليون نايٍ يُمَزِّقُ صدري
تصبَّبْتُ ثلجًا وشاهدتُ قبري على راحتيَّ
تبعثرتُ فوق السرير
تقيَّأت
غبتُ قليلاً عن الوعي
متُّ
وصحتُ قبيل الوفاة القصيرةِ:
إني أحبُّكِ، هل أدخل الموت من قدميكِ؟
ومتُّ.. ومتُّ تمامًا
فما أهدأ الموت لولا بكاؤك
ما أهدأ الموتَ لولا يداكِ اللتان تدقّان صدري لأرجع من حيث متُّ
أحبك قبل الوفاةِ، وبعد الوفاةِ
وبينهما لم أُشاهد سوى وجه أمي
هو القلب ضلَّ قليلاً وعادَ، سألتُ الحبيبة:
في أيِّ قلبٍ أُصبتُ؟ فمالتْ عليه وغطَّتْ سؤإلى بدمعتها
أيها القلب.. يا أيها القلبُ كيف كذبت عليَّ وأوقعتني عن صهيلي؟
لدينا كثير من الوقت، يا قلب، فاصمُدْ
ليأتيك من أرض بلقيس هدهدْ
بعثنا الرسائل
قطعنا ثلاثين بحرًا وستين ساحلْ
وما زال في العمر وقتٌ لنشرُد
ويا أيها القلب، كيف كذبتَ على فرسٍ لا تملُّ الرياحَ
تمهَّل لنكملَ هذا العناقَ الأخيرَ ونسجُدْ
:تمهَّل.. تمهَّلْ لأعرفَ إن كنتَ قلبي أم صوتَها وهي تصرخ
خُذني

4 - غرفة في فندق

سلامٌ على الحب يوم يجيءُ
ويوم يموتُ، ويومَ يُغَيِّرُ أصحابَهُ في الفنادِقِ
هل يخسرُ الحبُّ شيئًا? سنشربُ قهوتنا في مساءِ الحديقةِ
نروي أحاديثَ غربتنا في العشاءِ
ونمضي إلى حجْرةٍ كي نتابع بحث الغريبين عن ليلةٍ من حنانٍ، إلخ.. إلخ..
سننسى بقايا كلام على مقعدين
سننسى سجائرنا، ثم يأتي سوانا ليكمل سهرتنا والدخان
سننسى قليلاً من النوم فوق الوسادة
يأتي سوانا ويرقد في نومنا، إلخ.. إلخ
كيف كُنَّا نُصَدِّقُ أجسادَنا في الفنادقِ؟
كيف نُصَدِّقُ أَسرارنَا في الفنادق؟
يأتي سوانا، يُتابع صرختنا في الظلام الذي وَحَّدَ الجسدينْ
ولسنا سوى رَقمين ينامان فوقَ السرير .. إلخ.. إلخ..
المشاع المشاع، يقولان ما قاله عابرانِ على الحبِّ قبل قليلٍ
ويأتي الوداعُ سريعًا سريعًا
أما كان هذا اللقاء سريعًا لننسى الذين يحبوننا في فنادق أخرى؟
أما قلتِ هذا الكلام الإباحيَّ يومًا لغيري؟
أما قلتُ هذا الكلام الإباحيَّ يومًا لغيرك في فندقٍ آخر أو هنا فوق هذا السريرِ؟
سنمشي الخطى ذاتها كي يجيءَ سوانا ويمشي الخطى ذاتها.. إلخ.. إلخ

 



ريتا
محمود درويش - فلسطين

بين ريتا وعيوني ... بندقية
والذي يعرف ريتا، ينحني
ويصلي
لإله في العيون العسلية

... وأنا قبَّلت ريتا
عندما كانت صغيرة
وأنا أذكر كيف التصقت
بي ، وغطت ساعدي أحلى ضفيرة
وأنا أذكر ريتا

مثلما يذكر عصفورٌ غديره
آه ... ريتا
بينما مليون عصفور وصورة
ومواعيد كثيرة
أطلقت ناراً عليها ... بندقية

اسم ريتا كان عيداً في فمي
جسم ريتا كان عرساً في دمي
وأنا ضعت بريتا ... سنتين
وهي نامت فوق زندي سنتين
وتعاهدنا على أجمل كأس ، واحترقنا
في نبيذ الشفتين
وولدنا مرتين
آه ... ريتا
أي شيء ردَّ عن عينيك عينيَّ
سوى إغفاءتين
وغيوم عسلية
!قبل هذي البندقية
كان يا ما كان
يا صمت العشيّة
قمري هاجر في الصبح بعيداً
في العيون العسلية
والمدينة
كنست كل المغنين، وريتا
 
بين ريتا وعيوني ... بندقية
 

الجسر
محمود درويش - فلسطين

الجسر
مشيًا على الأقدام
أو زحفًا على الأيدي، نعودُ
قالوا ..
وكان الصخر يضمر
والمساء يدًا تقودُ ..
لم يعرفوا أن الطريق إلى الطريق
دم، ومصيدة، وبِيدُ
كل القوافل قبلهم غاصت،
وكان النهر يبصق ضفّتيه
قطعاً من اللحم المفتت
في وجوه العائدين
كانوا ثلاثة عائدين
شيخ، وابنته، وجندي قديم
يقفون عند الجسر ..
كان الجسر نعسانًا، وكان الليل قبعة، وبعد دقائق يصلون
هل في البيت ماء ؟ وتحسَّس المِفتاح ثم تلا من القرآن آية
قال الشيخ منتعشًا: وكم من منزل في الأرض يألفه الفتى
قالت: ولكنّ المنازل يا أبي أطلال
فأجاب: تبنيها يدان ..
ولم يُتمَّ حديثه، إذ صاح صوت في الطريق: تعالَوْا
وتلته طقطقة البنادق ..
لن يمر العائدون
حرس الحدود مرابط،
يحمي الحدود من الحنين

أمر بإطلاق الرصاص على الذي يجتاز هذا )
الجسر، هذا الجسر مقصلة الذي رفض التسول
تحت ظل وكالة الغوث الجديدة. والموت بالمجان
تحت الذل والأمطار، من يرفضه يُقتل عند
هذا الجسر، من الجسر مقصلة الذي ما زال يحلم
بالوطن )

الطلقة الأولى أزاحت عن جبين الليل
قبعة الظلام
والطلقة الأخرى ..
أصابت قلب جندي قديم ..
والشيخ يأخذ كفَّ ابنته ويتلو
همسًا من القرآن سورة
وبلهجة كالحلم قال، وعينه عند النجوم
ـ عينا حبيبتي الصغيرة،
ليَ يا جنود، ووجهها القمحي لي
والفستقُ الحلبي في فمها
وطلعتها الأميرة، والضفيرة
ليَ يا جنود
ليَ كلها، هذي حبيبتي الأخيرة

قَدِمُوا إليه .. مقهقهين
ـ لا تقتلوها.. اقتلوني
اقتلوا غدها، وخلوها بدوني
وخذوا فداها،
كلَّ الحديقة، والنقود،
وكل أكياس الطحين
وإذا أردتم، فاقتلوني

كانت مياه النهر أغزر .. فالذين رفضوا )
هناك الموت بالمجان أعطوا النهر لونًا آخر
والجسر، حين يصير تمثالاً، سيُصبغ - دون
(ريب - بالظهيرة والدماء وخضرة الموت المفاجئ

.. وبرغم أن القتل كالتدخين..
لكنَّ الجنود الطيبين،
الطالعين على فهارس دفترٍ ..
قذفته أمعاء السنين،
لم يقتلوا الإثنين ..
كان الشيخ يسقط في مياه النهر ..
والبنت التي صارت يتيمة
كانت ممزقة الثياب،
وطار عطر الياسمين
عن صدرها العاري الذي
ملأته رائحة الجريمة
والصمت خيَّم مرة أخرى،
وعاد النهر يَبصق ضفّتيه
قطعاً من اللحم المفتت
.. في وجوه العائدين
لم يعرفوا أن الطريق إلى الطريق
دم، ومصيدة، ولم يعرف أحد
شيئاً عن النهر الذي
يمتص لحم النازحين

الجسر مِقصلة لمن عادوا لمنزلهم، وأن الصمت مِقصلة )
الضمير. هل يسمع الكتاب،
تحت القبعات، حرير نهر من دم، أم يرقصون
الآن في نادي العراة كأن شيئًا لم يكن،
(ومغنيات الحب - كالجنرال - يشغلهن نخب الانتصار -؟

لكنَّ صوتًا، فرَّ من ليل الجريمة
طاف في كل الزوابع
ورَوَتْه أجنحة الرياح
:لكل نافذة، ومذياع، وشارع
 عينا حبيبتي الصغيرة "
ليَ، يا جنود، ووجهها القمحي لي
الفستقُ الحلبيُّ في فمها
وطلعتها الأميرة، والضفيرة
"لا تقتلوها .. واقتلوني

وأُضيف في ذيل الخبر :
كل الذين
كتبوا عن الدم والجريمة
:في هوامش دفتر التاريخ، قالوا
ومن الحماقة أن يظن المعتدون،
المرتدون ثياب شاه،
أنهم قتلوا الحنين
أما الفتاة، فسوف تكسو صدرها العاري
وتعرف كيف تزرع ياسمين
أما أبوها الشَّهْم، فالزيتون لن يصفرَّ من دمه،
*ولن يبقى حزين
ومن الجدير بأن يسجل:
*أن للمرحوم تاريخًا، وأنَّ له بنين 

الجسر يكبر كل يوم كالطريق، وهجرة )
الدم في مياه النهر تنحت من حصى الوادي
تماثيلاً لها لون النجوم، ولسعة الذكرى،
(وطعم الحب حين يكون أكثر من عبادة
 
عن الصمود
محمود درويش - فلسطين

لو يذكر الزيتون غارسهُ
لصار الزيت دمعا!
يا حكمة الأجدادِ
لو من لحمنا نعطيك درعا!
لكن سهل الريح،
لا يعطي عبيد الريح زرعا!
إنا سنقلع بالرموشِ
الشوك والأحزان.. قلعا!
وإلام نحمل عارنا وصليبنا!
والكون يسعى..
سنظل في الزيتون خضرته،
وحول الأرض درعا!!
ـ2ـ
إنا نحب الورد،
لكنا نحب القمح أكثرْ
ونحب عطر الورد،
لكن السنابل منه أطهرْ
بالصدر المسمر
هاتوا السياج من الصدور..
من الصدور ؛ فكيف يكسرْ؟؟
اقبض على عنق السنابلِ
مثلما عانقت خنجرْ!
الأرض ، والفلاح ، والإصرار،
قال لي كيف تقهر..
هذي الأقاليم الثلاثة،
كيف تقهر؟






الآن ... في المنفي
محمود درويش - فلسطين

الآن... في المنفي.. نَعَمْ في البيتِ،
في السٌِتينَ من عمْر سريع
يوقدون الشَّمْعَ لَكْ

فافرَحْ، بأقصي ما استطعتَ من الهدوء،
لأنَّ موتا طائشا ضَلَّ الطريقَ إليك
من فرط الزحام... وأَجَّلكْ

قَمَر فضوليّ علي الأطلال،
يضحك كالغبيٌ
فلا تصدٌِقْ أنه يدنو لكي يستقبلَكْ
هوَ، في وظيفته القديمةِ، مثل آذارَ
الجديدِ... أَعادَ للأشجار أَسماءَ الحنينِ
وأَهمَلكْ.

فلتحتفلْ مع أَصدقائكَ بانكسار الكأس.
في الستين لن تَجِدَ الغَدَ الباقي
لتحملَه علي كَتِفِ النشيد... ويحملَكْ

قلْ للحياةِ، كما يليق بشاعر متمرٌِسِ:
سِيري ببطء كالإناث الواثقات بسحرهنَّ
وكيدهنَّ. لكلٌِ واحدةِ نداء ما خفيّ
هَيْتَ لَكْ/ ما أَجملَكْ!

سيري ببطء، يا حياة، لكي أَراك
بِكامل النقْصَان حولي. كم نسيتكِ في
خضمٌِكِ باحثا عنٌِي وعنكِ. وكلَّما أدركت
سرٌا منك قلت بقسوة: ما أَجهلَكْ!

قل للغياب: نَقَصْتَني
وأَنا حضرت... لأكملكْ !
 



  
بـطـاقـة هـويـة
محمود درويش - فلسطين

سجِّل
أنا عربي
ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألفْ
وأطفالي ثمانيةٌ
وتاسعهُم.. سيأتي بعدَ صيفْ!
فهلْ تغضبْ؟

سجِّلْ
أنا عربي
وأعملُ مع رفاقِ الكدحِ في محجرْ
وأطفالي ثمانيةٌ
أسلُّ لهمْ رغيفَ الخبزِ،
والأثوابَ والدفترْ
من الصخرِ
ولا أتوسَّلُ الصدقاتِ من بابِكْ
ولا أصغرْ
أمامَ بلاطِ أعتابكْ
فهل تغضب؟

سجل
أنا عربي
أنا إسمٌ بلا لقبِ
صبورٌ في بلادٍ كلُّ ما فيها
يعيشُ بفورةِ الغضبِ
جذوري
قبلَ ميلادِ الزمانِ رستْ
وقبلَ تفتّحِ الحقبِ
وقبلَ السّروِ والزيتونِ
.. وقبلَ ترعرعِ العشبِ
أبي.. من أسرةِ المحراثِ
لا من سادةٍ نجبِ
وجدّي كانَ فلاحاً
بلا حسبٍ.. ولا نسبِ!
يعلّمني شموخَ الشمسِ قبلَ قراءةِ الكتبِ
وبيتي كوخُ ناطورٍ
منَ الأعوادِ والقصبِ
فهل ترضيكَ منزلتي؟
أنا إسمٌ بلا لقبِ

سجلْ
أنا عربي
ولونُ الشعرِ.. فحميٌّ
ولونُ العينِ.. بنيٌّ
وميزاتي:
على رأسي عقالٌ فوقَ كوفيّه
وكفّي صلبةٌ كالصخرِ
تخمشُ من يلامسَها
وعنواني:
أنا من قريةٍ عزلاءَ منسيّهْ
شوارعُها بلا أسماء
وكلُّ رجالها في الحقلِ والمحجرْ
فهل تغضبْ؟

سجِّل!
أنا عربي
سلبتَ كرومَ أجدادي
وأرضاً كنتُ أفلحُها
أنا وجميعُ أولادي
ولم تتركْ لنا.. ولكلِّ أحفادي
سوى هذي الصخورِ
فهل ستأخذُها
حكومتكمْ.. كما قيلا؟
إذنْ
سجِّل.. برأسِ الصفحةِ الأولى
أنا لا أكرهُ الناسَ
ولا أسطو على أحدٍ
ولكنّي.. إذا ما جعتُ
آكلُ لحمَ مغتصبي
حذارِ.. حذارِ.. من جوعي
ومن غضبي!!



    
أنا يوسف يا أبي
محمود درويش - فلسطين

أَنا يوسفٌ يا أَبي.
يا أَبي، إخوتي لا يحبُّونني،
لا يريدونني بينهم يا أَبي.

يَعتدُون عليَّ ويرمُونني بالحصى والكلامِ
يرِيدونني أَن أَموت لكي يمدحُوني
وهم أَوصدُوا باب بيتك دوني
وهم طردوني من الحقلِ
هم سمَّمُوا عنبي يا أَبي
وهم حطَّمُوا لُعبي يا أَبي

حين مرَّ النَّسيمُ ولاعب شعرِي
غاروا وثارُوا عليَّ وثاروا عليك،
فماذا صنعتُ لهم يا أَبي؟
الفراشات حطَّتْ على كتفيَّ،
ومالت عليَّ السَّنابلُ،
والطَّيْرُ حطَّتْ على راحتيَّ
فماذا فعَلْتُ أَنا يا أَبي،
ولماذا أَنا?

أَنتَ سمَّيتني يُوسُفًا،
وهُمُو أَوقعُونيَ في الجُبِّ، واتَّهموا الذِّئب;
والذِّئبُ أَرحمُ من إخوتي..
أبتي! هل جنَيْتُ على أَحد عندما قُلْتُ إنِّي:
رأَيتُ أَحدَ عشرَ كوكبًا، والشَّمس والقمرَ، رأيتُهُم لي ساجدين؟
 

 
  
ضباب كثيف علي الجسر
محمود درويش - فلسطين

قال لي صاحبي، والضباب كثيف
علي الجسر:
هل يعْرَف الشيء من ضدِّهِ؟
قلت: في الفجر يتَّضح الأمر
قال: وليس هنالك وقت أَشدُّ
التباسا من الفجر،
فاترك خيالك للنهر/
في زرقة الفجر يعْدَم في
باحة السجن، أو قرب حرش الصنوبر
شابٌ تفاءل بالنصر/
في زرقة الفجر ترسم رائحة الخبز
خارطة للحياة ربيعيَّة الصيف/
في زرقة الفجر يستيقظ الحالمون
خفافا ويمشون في ماء أَحلامهم
مرحين
إلي أَين يأخذنا الفجر، والفجر
جِسْر، إلي أَين يأخذنا؟
قال لي صاحبي: لا أريد مكانا
لأدفَنَ فيه. أريد مكانا لأَحيا،
وأَلعنَه إن أردت.
فقلت له والمكان يمرّ كإيماءة
بيننا: ما المكان؟
فقال: عثور الحواس على موطيء
للبديهة،
ثم تنهد:

يا شارعا ضيقا كان يحملني
في المساء الفسيح إلي بيتها
في ضواحي السكينةْ
أَما زلت تحفظ قلبيَ
عن ظهر قلب،
وتنسي دخان المدينةِ؟

قلت له: لا تراهن علي الواقعيِّ
فلن تجد الشيء حيا كصورته في
انتظارك....
إنَّ الزمان يدجِّنُ حتي الجبال
فتصبح أَعلي، وتصبح أوطأ مما عرفت.
إلي أَين يأخذنا الجسر؟
قال: وهل كان هذا الطريق
طويلا إلي الجسرِ؟
قلت: وهل كان هذا الضباب
كثيفا علي دَرَج الفجرِ؟
كم سنة كنْتَ تشبهني؟
قال: كم سَنَة كنْتَ أَنتَ أَنا؟
قلت: لا أَتذكَّر
قال: ولا أتذكر أني تذكرت
غير الطريق

وغنَّي:
علي الجسر، في بلد آخر
يعلن الساكسفون انتهاءَ الشتاء
علي الجسر يعترف الغرباء
بأخطائهم، عندما لا يشاركهم
أَحَد في الغناء

وقلت له: منذ كم سنة نَسْتَحِثّ
الحمامة: طيري إلي سدرة المنتهي،
تحت شباكنا، يا حمامة طيريَ طيري
فقال: كأني نسيت شعوري
وقال: وعما قليل نقلِّدُ أَصواتنا
حين كنا صغيرين. نلثغ بالسين واللام.
نغفو كزوجي يمام علي كرمة ترتدي
البيت. عما قليل تطلُّ علينا الحياة
بديهيَّة. فالجبال علي حالها، خلف
صورتها في مخيلتي. والسماء القديمة
صافية اللون والذهن، إن لم
يختِّي
الخيال، تظلّ علي حالها
مثل صورتها في مخيٌلتي، والهواء
الشهيّ النقيُّ البهيُّ يظل علي
حاله في انتظاري.. يظلّ علي حاله.

قلت: يا صاحبي، أَفرَغتني الطريق
الطويلة من جسدي. لا أحس بصلصاله.
لا أحسّ بأحواله. كلما سرت طرت.
خطايَ رؤاي. وأَما 'أنا' ي، فقد
لَوَّحَتْ من بعيد

'
إذا كان دربكَ هذا
طويلا
فلي عملٌ في الأساطير'

أَيدي إلهيَّة دَرَّبتنا علي حفر أسمائنا
في فهارس صفصافة. لم نكنِ واضحين
ولا غامضين. ولكنَّ أسلوبنا في
عبور الشوارع من زمنِ نحو آخرَ
كان يثير التساؤل: مَنْ هؤلاءِ
الذين إذا شاهدوا نخلة وقفوا
صامتين، وخرّوا علي ظلِّها ساجدين؟
ومن هؤلاء الذين إذا ضحكوا أزعجوا
الآخرين؟

علي الجسر، في بلد آخر، قال لي
يعْرَف الغرباء من النَّظَر المتقطّع في الماء،
أو يعْرَفون من الانطواء وتأتأة المشي.
فابن البلاد يسير إلي هدف واضحِ
مستقيمَ الخطي. والغريب يدور علي
نفسه حائرا

قال لي: كلّ جسري لقاء... علي
الجسر أدخل في خارجي، وأسلم
قلبي إلي نَحْلَة أو سنونوَّة
قلت: ليس تماما. علي الجسر أمشي
إلي داخلي، وأروِّضُ نفسي علي
الانتباه إلي أمرها. كلّ جسري فصام،
فلا أنت أنت كما كنت قبل قليل،
ولا الكائنات هي الذكريات

أنا اثنان في واحد
أم أنا
واحد يتشظي إلي اثنين
يا جسْر يا جسر
أيُّ
الشَّتِيتَيْنِ منا أَنا؟

مشينا علي الجسر عشرين عاما
مشينا علي الجسر عشرين مترا
ذهابا إيابا،

وقلت: ولم يبقَ إلا القليل
وقال: ولم يبقَ إلا القليل
وقلنا معا، وعلي حدة، حالمين:

سأمشي خفيفا، خطَايَ علي الريحِ
قوس تدغدغ أرضَ الكمان
سأسمع نبض دمي في الحصي
وعروق المكان

سأسند رأسي إلي جذع خَرّوبة،
هي أمِّي ، ولو أنْكَرَتْني
سأغفو قليلا، ويحملني طائران صغيران
أعلي وأعلي... إلي نجمة شرَّدتني

سأوقظ روحي علي وَجَع سابق
قادم، كالرسالة، من شرفة الذاكرةْ
سأهتف: مازلت حيًّا، لأنيَ
أَشعر بالسهم يخترق الخاصرةْ

سأنظر نحو اليمين، إلي جهة الياسمين
هناك تعلَّمْت أول أغاني الجسدْ
سأنظر نحو اليسار، إلي جهة البحر
حيث تعلَّمت صَيْدَ الزَّبَدْ

سأكذب مثل المراهق: هذا الحليب
علي بنطلوني ثمَاَلة حلْمِ تحرَّش بي... وانتهي
سأنكر أني أقلِّد قيلولة الشاعر
الجاهليِّ
الطويلةَ بين عيون المها

سأشرب من حَنَفيَّة ماء الحديقة حفنةَ
ماء. وأَعطش كالماء شوقا إلي نفسِهِ
سأسأل أوَّل عابر درب: أَشاهدتَ
شخصا علي هيئة الطيف، مثلي، يفتِّش
عن أَمسِه؟

سأحمل بيتي علي كتفيَّ... وأَمشي
كما تفعل السلحفاة البطيئةْ
سأصطاد نسرا بمكنسة، ثم أسأل:
أَين الخطيئة؟

سأبحث في الميثولوجيا وفي الأركيولوجيا
وفي كل جيم عن اسمي القديم
ستنحاز إحدي إِلهات كَنْعَانَ لي، ثمَّ
تحلف بالبرق: هذا هو ابني اليتيم

سأثني علي امرأة أنجبتْ طفلة   ً
في الأنابيب. لكنها لا تمتّ إليها بأيِّ شَبَهْ
سأبكي علي رجل مات حين انتَبهْ

سآخذ
سطر المعرِّيَ ثم أعدِّلهُ:
جَسَدي خرقَة من تراب، فيا خائطَ
الكون خِطْني!
سأكتب: يا خالقَ الموت، دعني
قليلا... وشأني!

سأوقظ موتايَ: نحن سواسية أيها
النائمون، أما زلتموا مثلنا تحلمون
بيوم القيامةْ؟
سأجمع ما بعثرته الرياح من الغَزَل
القرْطبيِّ
، وأكمل طَوْقَ الحمامةْ

سأختار من ذكرياتي الحميماتِ
وَصْفَ الملائم: رائحة الشرشف المتجعِّد
بعد الجِماع كرائحة العشب بعد المطرْ
سأشهد كيف سيخضرّ وجه الحجرْ

سيلسعني وَرْد آذارَ، حيث ولدت
لأوٌل مَرٌةْ
ستحمل بي زهرة الجلَّنار، وأولَد منها
لآخر مَرَّةْ!

سأَنأي عن الأمس، حين أعيد
له إرثه: الذاكرةْ
سأدنو من الغد حين أطارد قبَّرة  ًماكرةْ
سأعلم أَني تأخَّرْت عن موعدي

وسأعرف أنَّ غدي
مَرَّ، مَرَّ السحابةِ، منذ قليل،
ولم ينتظرني
سأعلم أن السماء ستمطر بعد قليل
عليَّ
وأنٌي
أَسير علي الجسر

هل نطأ الآن أرض الحكاية؟ قد
لا تكون كما نتخيَّل 'لا هي سَمْن
ولا عَسَل' والسماء رمادَّية اللون.
والفجر ما زال أزرقَ ملتبسا.ما
هو الزمن الآن؟ جسر يطول
ويقصر.. فجر يطول ويمكر. ما
الزمن الآن؟

تغفو البلاد القديمة خلف قلاع
سياحيّةٍ
. والزمان يهاجر في نجمة
أَحرقت فارسا عاطفيا. فيا أيها
النائمون علي إبر الذكريات! أَلا
تشعرون بصوت الزلازل في حافر الظبي؟

قلت له: هل أَصابتك حمَّي؟
فتابع كابوسه: أَيها النائمون! ألا
تسمعون هسيس القيامة في حبة الرمل؟
قلت له: هل تكلمني؟ أم تكلِّم نفسك؟
قال: وصلت إلي آخر الحلم...
شاهدت نفسي عجوزا هناك،
وشاهدت قلبي يطارد كلبي هناك
وينبح... شاهدت غرفةَ نومي
تقَهْقِه: هل أَنتَ حيٌ؟ تعال
لأحمل عنك الهواء وعكازك الخشبيَّ
المرصَّع بالصدف المغربيِّ!! فكيف
أعيد البداية، يا صاحبي، من أَنا؟
من أنا دون حلْم ورفقة أنثي؟

فقلت: نزور فتات الحياة، الحياة
كما هي، ولنتدرَّبْ علي حبِّ أشياء
كانت لنا، وعلي حبِّ أشياء ليست
لنا... ولنا إن نظرنا إليها معا من علي
كسقوط الثلوج علي جَبَلي
قد تكون الجبال علي حالها
والحقول علي حالها
والحياة بديهية ومشاعا،
فهل ندخل الآن أرض الحكاية يا صاحبي؟
قال لي: لا أريد مكانا لأدفن فيه
أريد مكانا لأحيا، وألعنه لو أردت...

وحملق في الجسر: هذا هو الباب.
باب الحقيقة لا نستطيع الدخول ولا
نستطيع الخروج
ولا يعْرَف الشيء من شدِّهِ
أَلممرات مغْلَقَة
والسماء رماديَّة الوجه ضدَّه

ويد الفجر ترفع سروال جنديٌةِ
عاليا عاليا...

وبقينا علي الجسر عشرين عاما
أكلنا الطعام المعلّب عشرين عاما
لبسنا ثياب الفصول،
استمعنا إلي الأغنيات الجديدة،
جيدة
الصنع،
من ثكنات الجنود
تزوَّج أولادنا بأميرات منفي
وغيَّرن أسماءهم،
وتركنا مصائرنا لهواة الخسائر
في السينما.
وقرأنا علي الرمل آثارنا
لم نكن غامضين ولا واضحين
كصورة فجر كثيرِ التثاؤبِ

قلت: أما زال يجرحك الجرح، يا صاحبي؟
قال لي: لا أحسّ بشيء
فقد حوَّلت فكرتي جسدي دفترا للبراهين،
لا شيء يثبت أَني أنا
غَيْر موت صريح علي الجسر،
أَرنو إلي وردة في البعيد
فيشتعل الجمر
أرنو إلي مسقط الرأس، خلف البعيد
فيتسع القبر

قلت: تمهل ولا تَمتِ الآن. إنَّ الحياةَ
علي الجسر ممكنة. والمجاز فسيح المدي
هاهنا بَرْزَخٌ بين دنيا وآخرةٍ
بين منفى وأرض مجاورة...
قال لي، والصقور تحلق من فوقنا:
خذِ اسمي رفيقا وحدِّثه عني
وعش أنت حتي يعود بك الجسر
حيّاً غدا
لا تقل: إنه مات، أو عاش
قرب الحياة سدي!
قل: أطلَّ علي نفسه من علي
ورأي نفسه ترتديِ شجرا، واكتفي
بالتحيَّة:

إن كان هذا الطريق طويلا
فلي عَمَل في الأساطير

كنت وحيدا علي الجسر، في ذلك
اليوم، بعد اعتكاف المسيح علي
جبل في ضواحي أريحا.. وقبل القيامة.
أمشي ولا أستطيع الدخول ولا أستطيع
الخروج... أدور كزهرة عبَّاد شمسِ.
وفي الليل يوقظني صوت حارسة الليل
حين تغنٌي لصاحبها:

لا تَعِدْني بشيءٍ
ولا تهدِني
وردة من أريحا



فرحا بشيء ما
محمود درويش - فلسطين

فرحا بشيء ما خفيٍّ، كنْت أَحتضن
الصباح بقوَّة الإنشاد، أَمشي واثقا
بخطايَ، أَمشي واثقا برؤايَ، وَحْي ما
يناديني: تعال! كأنَّه إيماءة سحريَّة ٌ،
وكأنه حلْم ترجَّل كي يدربني علي أَسراره،
فأكون سيِّدَ نجمتي في الليل... معتمدا
علي لغتي. أَنا حلْمي أنا. أنا أمّ أمِّي
في الرؤي، وأَبو أَبي، وابني أَنا.

فرحا بشيء ما خفيٍّ، كان يحملني
علي آلاته الوتريِّة الإنشاد . يَصْقلني
ويصقلني كماس أَميرة شرقية
ما لم يغَنَّ الآن
في هذا الصباح
فلن يغَنٌي

أَعطنا، يا حبّ، فَيْضَكَ كلَّه لنخوض
حرب العاطفيين الشريفةَ، فالمناخ ملائم،
والشمس تشحذ في الصباح سلاحنا،
يا حبُّ! لا هدفٌ لنا إلا الهزيمةَ في
حروبك.. فانتصرْ أَنت انتصرْ، واسمعْ
مديحك من ضحاياكَ: انتصر! سَلِمَتْ
يداك! وَعدْ إلينا خاسرين... وسالما!

فرحا بشيء ما خفيٍّ، كنت أَمشي
حالما بقصيدة زرقاء من سطرين، من
سطرين... عن فرح خفيف الوزن،
مرئيٍّ وسرِّيٍّ معا
مَنْ لا يحبّ الآن،
في هذا الصباح،
فلن يحبَّ
!
 




كمقهي صغير هو الحب
محمود درويش - فلسطين

كمقهي صغير علي شارع الغرباء
هو الحبّ... يفتح أَبوابه للجميع.
كمقهي يزيد وينقص وَفْق المناخ:
إذا هَطَلَ المطر ازداد روَّاده،
وإذا اعتدل الجوّ قَلّوا ومَلّوا...
أَنا هاهنا يا غريبة في الركن أجلس
ما لون عينيكِ؟ ما اَسمك؟ كيف
أناديك حين تمرِّين بي ، وأَنا جالس
في انتظاركِ؟
مقهي صغيرٌ هو الحبّ. أَطلب كأسيْ
نبيذ وأَشرب نخبي ونخبك. أَحمل
قبَّعتين وشمسيَّة. إنها تمطر الآن.

تمطر أكثر من أيِّ يوم، ولا تدخلينَ
أَقول لنفسي أَخيرا: لعلَّ التي كنت
أنتظر انتظَرتْني... أَو انتظرتْ رجلا
آخرَ انتظرتنا ولم تتعرف عليه/ عليَّ،
وكانت تقول: أَنا هاهنا في انتظاركَ.
ما لون عينيكَ؟ أَيَّ نبيذٍ تحبّ؟
وما اَسمكَ؟ كيف أناديكَ حين
تمرّ أَمامي
كمقهي صغير هو الحب


 


 
لا أنام لأحلم
محمود درويش - فلسطين

لا أَنام لأحلم قالت لَه
بل أَنام لأنساكَ. ما أطيب النوم وحدي
بلا صَخَب في الحرير، اَبتعدْ لأراكَ
وحيدا هناك، تفكٌِر بي حين أَنساكَ/
لا شيء يوجعني في غيابكَ
لا الليل يخمش صدري ولاشفتاكَ...
أنام علي جسدي كاملا كاملا
لا شريك له،
لا يداك تشقَّان ثوبي، ولا قدماكَ
تَدقَّان قلبي كبنْدقَة عندما تغلق الباب/
لاشيء ينقصني في غيابك:
نهدايَ لي. سرَّتي. نَمَشي. شامتي،

ويدايَ وساقايَ لي. كلّ ما فيَّ لي
ولك الصّوَر المشتهاة، فخذْها
لتؤنس منفاكَ، واَرفع رؤاك كَنَخْب
أخير. وقل إن أَردت: هَواكِ هلاك.
وأَمَّا أَنا، فسأصْغي إلي جسدي
بهدوء الطبيبة: لاشيء، لاشيء
يوجِعني في الغياب سوي عزْلَةِ الكون
 
     





الجدارية
محمود درويش - فلسطين

هذا هو اسمك /
قالتِ امرأة ،
وغابتْ في الممرٌِ اللولبيٌِ“
أري السماء هناك في متناولِ الأيدي .
ويحملني جناح حمامة بيضاء صوْب
طفولة أخري . ولم أحلمْ بأني
كنت أحلم . كلٌ شيء واقعيٌ . كنْت
أعلم أنني ألْقي بنفسي جانبا“
وأطير . سوف أكون ما سأصير في
الفلك الأخيرِ .

وكلٌ شيء أبيض ،
البحر المعلٌق فوق سقف غمامةٍ
بيضاء . والٌلا شيء أبيض في
سماء المطْلق البيضاءِ . كنْت ، ولم
أكنْ . فأنا وحيد في نواحي هذه
الأبديٌة البيضاء . جئت قبيْل ميعادي
فلم يظْهرْ ملاك واحد ليقول لي :
(( ماذا فعلت ، هناك ، في الدنيا ؟ ))
ولم أسمع هتاف الطيٌِبين ، ولا
أنين الخاطئين ، أنا وحيد في البياض ،
أنا وحيد “

لاشيء يوجِعني علي باب القيامةِ .
لا الزمان ولا العواطف . لا
أحِسٌ بخفٌةِ الأشياء أو ثِقلِ
الهواجس . لم أجد أحدا لأسأل :
أين (( أيْني )) الآن ؟ أين مدينة
الموتي ، وأين أنا ؟ فلا عدم
هنا في اللا هنا “ في اللازمان ،
ولا وجود

وكأنني قد متٌ قبل الآن “
أعرف هذه الرؤيا ، وأعرف أنني
أمضي إلي ما لسْت أعرف . ربٌما
ما زلت حيٌا في مكان ٍ ما، وأعرف
ما أريد “
سأصير يوما ما أريد

سأصير يوما فكرة . لا سيْف يحملها
إلي الأرضِ اليبابِ ، ولا كتاب “
كأنٌها مطر علي جبلٍ تصدٌع من
تفتٌح عشْبة ٍ ،
لا القوٌة انتصرتْ
ولا العدْل الشريد
سأصير يوما ما أريد

سأصير يوما طائرا ، وأسلٌ من عدمي
وجودي . كلٌما احترق الجناحانِ
اقتربت من الحقيقةِ ، وانبعثت من
الرمادِ . أنا حوار الحالمين ، عزفْت
عن جسدي وعن نفسي لأكْمِل
رحلتي الأولي إلي المعني ، فأحْرقني
وغاب . أنا الغياب . أنا السماويٌ
الطريد .
سأصير يوما ما أريد

سأصير يوما كرمة ،
فلْيعْتصِرني الصيف منذ الآن ،
وليشربْ نبيذي العابرون علي
ثريٌات المكان السكٌريٌِ !
أنا الرسالة والرسول
أنا العناوين الصغيرة والبريد
سأصير يوما ما أريد

هذا هو اسمك /
قالتِ امرأة ،
وغابتْ في ممرٌِ بياضها .
هذا هو اسمك ، فاحفظِ اسْمك جيٌِدا !
لا تختلفْ معه علي حرْفي
ولا تعْبأْ براياتِ القبائلِ ،
كنْ صديقا لاسمك الأفقِيٌِ
جرٌِبْه مع الأحياء والموتي
ودرٌِبْه علي النطْق الصحيح برفقة الغرباء
واكتبْه علي إحدي صخور الكهف ،
يا اسمي : سوف تكبر حين أكبر
سوف تحمِلني وأحملك
الغريب أخ الغريب
سنأخذ الأنثي بحرف العِلٌة المنذور للنايات
يا اسمي: أين نحن الآن ؟
قل : ما الآن ، ما الغد ؟
ما الزمان وما المكان
وما القديم وما الجديد ؟
سنكون يوما ما نريد

لا الرحلة ابتدأتْ ، ولا الدرب انتهي
لم يبْلغِ الحكماء غربتهمْ
كما لم يبْلغ الغرباء حكمتهمْ
ولم نعرف من الأزهار غير شقائقِ النعمانِ ،
فلنذهب إلي أعلي الجداريات :
أرض قصيدتي خضراء ، عالية ،
كلام الله عند الفجر أرض قصيدتي
وأنا البعيد
أنا البعيد

في كلٌِ ريحي تعْبث امرأة بشاعرها
­ خذِ الجهة التي أهديتني
الجهة التي انكسرتْ ،
وهاتِ أنوثتي ،
لم يبْق لي إلاٌ التأمٌل في
تجاعيد البحيْرة . خذْ غدي عنٌِي
وهاتِ الأمس ، واتركنا معا
لا شيء ، بعدك ، سوف يرحل
أو يعود

­ وخذي القصيدة إن أردتِ
فليس لي فيها سواكِ
خذي (( أنا )) كِ . سأكْمل المنفي
بما تركتْ يداكِ من الرسائل لليمامِ .
فأيٌنا منا (( أنا )) لأكون آخرها ؟
ستسقط نجمة بين الكتابة والكلامِ
وتنْشر الذكري خواطرها : ولِدْنا
في زمان السيف والمزمار بين
التين والصبٌار . كان الموت أبطأ .
كان أوْضح . كان هدْنة عابرين
علي مصبٌِ النهر . أما الآن ،
فالزرٌ الإلكترونيٌ يعمل وحْده . لا
قاتل يصْغي إلي قتلي . ولا يتلو
وصيٌته شهيد

من أيٌِ ريح جئتِ ؟
قولي ما اسم جرْحِكِ أعرفِ
الطرق التي سنضيع فيها مرٌتيْنِ !
وكلٌ نبْضٍ فيكِ يوجعني ، ويرْجِعني
إلي زمنٍ خرافيٌ . ويوجعني دمي
والملح يوجعني “ ويوجعني الوريد

في الجرٌة المكسورةِ انتحبتْ نساء
الساحل السوريٌ من طول المسافةِ ،
واحترقْن بشمس آب . رأيتهنٌ علي
طريق النبع قبل ولادتي . وسمعت
صوْت الماء في الفخٌار يبكيهنٌ :
عدْن إلي السحابة يرجعِ الزمن الرغيد

قال الصدي :
لاشيء يرجع غير ماضي الأقوياء
علي مِسلاٌت المدي “ذهبيٌة آثارهمْ
ذهبيٌة ورسائلِ الضعفاءِ للغدِ ،
أعْطِنا خبْز الكفاف ، وحاضرا أقوي .
فليس لنا التقمٌص والحلول ولا الخلود

قال الصدي :
وتعبت من أملي العضال . تعبت
من شرك الجماليٌات : ماذا بعد
بابل؟ كلٌما اتٌضح الطريق إلي
السماء ، وأسْفر المجهول عن هدفٍ
نهائيٌ تفشٌي النثر في الصلوات ،
وانكسر النشيد

خضراء ، أرض قصيدتي خضراء عالية “
تطِلٌ عليٌ من بطحاء هاويتي “
غريب أنت في معناك . يكفي أن
تكون هناك ، وحدك ، كي تصير
قبيلة“
غنٌيْت كي أزِن المدي المهدور
في وجع الحمامةِ ،
لا لأشْرح ما يقول الله للإنسان ،
لسْت أنا النبيٌ لأدٌعي وحْيا
وأعْلِن أنٌ هاويتي صعود

وأنا الغريب بكلٌِ ما أوتيت من
لغتي . ولو أخضعت عاطفتي بحرف
الضاد ، تخضعني بحرف الياء عاطفتي ،
وللكلمات وهي بعيدة أرض تجاوِر
كوكبا أعلي . وللكلمات وهي قريبة
منفي . ولا يكفي الكتاب لكي أقول :
وجدت نفسي حاضرا مِلْء الغياب .
وكلٌما فتٌشْت عن نفسي وجدت
الآخرين . وكلٌما فتٌشْت عنْهمْ لم
أجد فيهم سوي نفسي الغريبةِ ،
هل أنا الفرْد الحشود ؟

وأنا الغريب . تعِبْت من درب الحليب
إلي الحبيب . تعبت من صِفتي .
يضيق الشٌكْل . يتٌسع الكلام . أفيض
عن حاجات مفردتي . وأنْظر نحو
نفسي في المرايا :
هل أنا هو ؟
هل أؤدٌِي جيٌِدا دوْرِي من الفصل
الأخيرِ ؟
وهل قرأت المسرحيٌة قبل هذا العرض ،
أم فرِضتْ عليٌ ؟
وهل أنا هو من يؤدٌِي الدٌوْر
أمْ أنٌ الضحيٌة غيٌرتْ أقوالها
لتعيش ما بعد الحداثة ، بعدما
انْحرف المؤلٌف عن سياق النصٌِ
وانصرف الممثٌل والشهود ؟

وجلست خلف الباب أنظر :
هل أنا هو ؟
هذه لغتي . وهذا الصوت وخْز دمي
ولكن المؤلٌِف آخر“
أنا لست مني إن أتيت ولم أصِلْ
أنا لست منٌِي إن نطقْت ولم أقلْ
أنا منْ تقول له الحروف الغامضات :
اكتبْ تكنْ !
واقرأْ تجِدْ !
وإذا أردْت القوْل فافعلْ ، يتٌحِدْ
ضدٌاك في المعني “
وباطِنك الشفيف هو القصيد

بحٌارة حولي ، ولا ميناء
أفرغني الهباء من الإشارةِ والعبارةِ ،
لم أجد وقتا لأعرف أين منْزِلتي ،
الهنيْهة ، بين منْزِلتيْنِ . لم أسأل
سؤالي ، بعد ، عن غبش التشابهِ
بين بابيْنِ : الخروج أم الدخول “
ولم أجِدْ موتا لأقْتنِص الحياة .
ولم أجِدْ صوتا لأصرخ : أيٌها
الزمن السريع ! خطفْتني مما تقول
لي الحروف الغامضات :
ألواقعيٌ هو الخياليٌ الأكيد

يا أيها الزمن الذي لم ينتظِرْ “
لم ينْتظِرْ أحدا تأخٌر عن ولادتِهِ ،
دعِ الماضي جديدا ، فهْو ذكراك
الوحيدة بيننا ، أيٌام كنا أصدقاءك ،
لا ضحايا مركباتك . واتركِ الماضي
كما هو ، لا يقاد ولا يقود

ورأيت ما يتذكٌر الموتي وما ينسون “
همْ لا يكبرون ويقرأون الوقْت في
ساعات أيديهمْ . وهمْ لايشعرون
بموتنا أبدا ولا بحياتهِمْ . لا شيء
ممٌا كنْت أو سأكون . تنحلٌ الضمائر
كلٌها . هو في أنا في أنت .
لا كلٌ ولاجزْء . ولا حيٌ يقول
لميٌِتي : كنٌِي !

.. وتنحلٌ العناصر والمشاعر . لا
أري جسدي هناك ، ولا أحسٌ
بعنفوان الموت ، أو بحياتي الأولي .
كأنٌِي لسْت منٌي . منْ أنا ؟ أأنا
الفقيد أم الوليد ؟

الوقْت صِفْر . لم أفكٌِر بالولادة
حين طار الموت بي نحو السديم ،
فلم أكن حيٌا ولا ميْتا،
ولا عدم هناك ، ولا وجود

تقول ممرٌِضتي : أنت أحسن حالا .
وتحقنني بالمخدٌِر : كنْ هادئا
وجديرا بما سوف تحلم
عما قليل “

رأيت طبيبي الفرنسيٌ
يفتح زنزانتي
ويضربني بالعصا
يعاونه اثنانِ من شرْطة الضاحيةْ

رأيت أبي عائدا
من الحجٌِ ، مغمي عليه
مصابا بضربة شمسي حجازيٌة
يقول لرفٌِ ملائكةي حوْله :
أطفئوني ! “

رأيت شبابا مغاربة
يلعبون الكرةْ
ويرمونني بالحجارة : عدْ بالعبارةِ
واتركْ لنا أمٌنا
يا أبانا الذي أخطأ المقبرةْ !

رأيت ريني شار
يجلس مع هيدغر
علي بعْدِ مترين منٌِي ،
رأيتهما يشربان النبيذ
ولا يبحثان عن الشعر “
كان الحوار شعاعا
وكان غد عابر ينتظرْ

رأيت رفاقي الثلاثة ينتحبون
وهمْ
يخيطون لي كفنا
بخيوطِ الذٌهبْ

رأيت المعريٌ يطرد نقٌاده
من قصيدتِهِ :
لست أعمي
لأبْصِر ما تبصرونْ ،
فإنٌ البصيرة نور يؤدٌِي
إلي عدمي “. أو جنونْ

رأيت بلادا تعانقني
بأيدي صباحيٌة : كنْ
جديرا برائحة الخبز . كنْ
لائقا بزهور الرصيفْ
فما زال تنٌور أمٌِك
مشتعلا ،
والتحيٌة ساخنة كالرغيفْ !

خضراء ، أرض قصيدتي خضراء . نهر واحد يكفي
لأهمس للفراشة : آهِ ، يا أختي ، ونهْر واحد يكفي لإغواءِ
الأساطير القديمة بالبقاء علي جناح الصٌقْر ، وهْو يبدٌِل
الراياتِ والقمم البعيدة ، حيث أنشأتِ الجيوش ممالِك
النسيان لي . لا شعْب أصْغر من قصيدته . ولكنٌ السلاح
يوسٌِع الكلمات للموتي وللأحياء فيها ، والحروف تلمٌِع
السيف المعلٌق في حزام الفجر ، والصحراء تنقص
بالأغاني ، أو تزيد

لا عمْر يكفي كي أشدٌ نهايتي لبدايتي
أخذ الرٌعاة حكايتي وتوغٌلوا في العشب فوق مفاتن
الأنقاض ، وانتصروا علي النسيان بالأبواق والسٌجع
المشاع ، وأورثوني بحٌة الذكري علي حجرِ الوداع ، ولم
يعودوا “

رعويٌة أيٌامنا رعويٌة بين القبيلة والمدينة ، لم أجد ليْلا
خصوصِيٌا لهودجِكِ المكلٌلِ بالسراب ، وقلتِ لي :
ما حاجتي لاسمي بدونك ؟ نادني ، فأنا خلقتك
عندما سمٌيْتني ، وقتلتني حين امتلكت الاسم “
كيف قتلتني ؟ وأنا غريبة كلٌِ هذا الليل ، أدْخِلْني
إلي غابات شهوتك ، احتضنٌِي واعْتصِرْني ،
واسفك العسل الزفافيٌ النقيٌ علي قفير النحل .
بعثرني بما ملكتْ يداك من الرياح ولمٌني .
فالليل يسْلِم روحه لك يا غريب ، ولن تراني نجمة
إلاٌ وتعرف أنٌ عائلتي ستقتلني بماء اللازوردِ ،
فهاتِني ليكون لي ­ وأنا أحطٌِم جرٌتي بيديٌ ­حاضِري السعيد

­ هل قلْت لي شيئا يغيٌِر لي سبيلي ؟
­ لم أقلْ . كانت حياتي خارجي
أنا منْ يحدٌِث نفسه :
وقعتْ معلٌقتي الأخيرة عن نخيلي
وأنا المسافِر داخلي
وأنا المحاصر بالثنائياتِ ،
لكنٌ الحياة جديرة بغموضها
وبطائرِ الدوريٌِ “
لم أولدْ لأعرف أنني سأموت ، بل لأحبٌ محتوياتِ ظلٌِ
اللهِ
يأخذني الجمال إلي الجميلِ
وأحبٌ حبٌك ، هكذا متحررا من ذاتِهِ وصفاتِهِ
وأِنا بديلي “
أنا من يحدٌِث نفْسه :
مِنْ أصغر الأشياءِ تولد أكبر الأفكار
والإيقاع لا يأتي من الكلمات ،
بل مِنْ وحدة الجسديْنِ
في ليلي طويلي “

أنا منْ يحدٌِث نفْسه
ويروٌِض الذكري “ أأنتِ أنا ؟
وثالثنا يرفرف بيننا لا تنْسياني دائما
يا موْتنا ! خذْنا إليك علي طريقتنا ، فقد نتعلٌم الإشراق “
لا شمْس ولا قمر عليٌ
تركت ظلٌِي عالقا بغصون عوْسجةي
فخفٌ بِي المكان
وطار بي روحي الشٌرود

أنا منْ يحدٌِث نفسه :
يا بنت : ما فعلتْ بكِ الأشواق ؟
إن الريح تصقلنا وتحملنا كرائحة الخريفِ ،
نضجتِ يا امرأتي علي عكٌازتيٌ ،
بوسعك الآن الذهاب علي طريق دمشق
واثقة من الرؤيا . ملاك حارس
وحمامتان ترفرفان علي بقيٌة عمرنا ، والأرض عيد “

الأرض عيد الخاسرين ونحن منهمْ
نحن من أثرِ النشيد الملحميٌِ علي المكان ، كريشةِ النٌسْرِ
العجوز خيامنا في الريح . كنٌا طيٌِبين وزاهدين بلا تعاليم
المسيح . ولم نكنْ أقوي من الأعشابِ إلاٌ في ختام
الصيْفِ ،
أنتِ حقيقتي ، وأنا سؤالكِ
لم نرِثْ شيئا سوي اسْميْنا
وأنتِ حديقتي ، وأنا ظلالكِ
عند مفترق النشيد الملحميٌِ “
ولم نشارك في تدابير الإلهات اللواتي كنٌ يبدأن النشيد
بسحرهنٌ وكيدهنٌ . وكنٌ يحْمِلْن المكان علي قرون
الوعل من زمنِ المكان إلي زمان آخري “

كنا طبيعيٌِين لو كانت نجوم سمائنا أعلي قليلا من
حجارة بئرنا ، والأنبياء أقلٌ إلحاحا ، فلم يسمع مدائحنا
الجنود “

خضراء ، أرض قصيدتي خضراء
يحملها الغنائيٌون من زمني إلي زمني كما هِي في
خصوبتها .
ولي منها : تأمٌل نرْجسي في ماء صورتِهِ
ولي منها وضوح الظلٌِ في المترادفات
ودقٌة المعني “
ولي منها : التٌشابه في كلام الأنبياءِ
علي سطوح الليلِ
لي منها : حمار الحكمةِ المنسيٌ فوق التلٌِ
يسخر من خرافتها وواقعها “
ولي منها : احتقان الرمز بالأضدادِ
لا التجسيد يرجِعها من الذكري
ولا التجريد يرفعها إلي الإشراقة الكبري
ولي منها : أنا الأخري
تدوٌِن في مفكٌِرة الغنائيٌِين يوميٌاتها :
((إن كان هذا الحلْم لا يكفي
فلي سهر بطوليٌ علي بوابة المنفي “ ))
ولي منها : صدي لغتي علي الجدران
يكشِط مِلْحها البحريٌ
حين يخونني قلْب لدود “

أعلي من الأغوار كانت حكمتي
إذ قلت للشيطان : لا . لا تمْتحِنٌِي !
لا تضعْني في الثٌنائيٌات ، واتركني
كما أنا زاهدا برواية العهد القديم
وصاعدا نحو السماء ، هناك مملكتي
خذِ التاريخ ، يا ابن أبي ، خذِ
التاريخ “ واصنعْ بالغرائز ما تريد

ولِي السكينة . حبٌة القمح الصغيرة
سوف تكفينا ، أنا وأخي العدوٌ ،
فساعتي لم تأْتِ بعْد . ولم يحِنْ
وقت الحصاد . عليٌ أن ألِج الغياب
وأن أصدٌِق أوٌلا قلبي وأتبعه إلي
قانا الجليل . وساعتي لم تأتِ بعْد .
لعلٌ شيئا فيٌ ينبذني . لعلٌِي واحد
غيري . فلم تنضج كروم التين حول
ملابس الفتيات بعْد . ولم تلِدْني
ريشة العنقاء . لا أحد هنالك
في انتظاري . جئْت قبل ، وجئت
بعد ، فلم أجد أحدا يصدٌِق ما
أري . أنا منْ رأي . وأنا البعيد
أنا البعيد

منْ أنت ، يا أنا ؟ في الطريقِ
اثنانِ نحْن ، وفي القيامة واحد .
خذْني إلي ضوء التلاشي كي أري
صيْرورتي في صورتي الأخري . فمنْ
سأكون بعدك ، يا أنا ؟ جسدي
ورائي أم أمامك ؟ منْ أنا يا
أنت ؟ كوٌِنٌِي كما كوٌنْتك ، ادْهنٌِي
بزيت اللوز ، كلٌِلني بتاج الأرز .
واحملني من الوادي إلي أبديٌةٍ
بيضاء . علٌِمني الحياة علي طريقتِك ،
اختبِرْني ذرٌة في العالم العلْوِيٌِ .
ساعِدْني علي ضجر الخلود ، وكنْ
رحيما حين تجرحني وتبزغ من
شراييني الورود “

لم تأت ساعتنا . فلا رسل يقِيسون
الزمان بقبضة العشب الأخير . هل استدار ؟ ولا ملائكة
يزورون المكان ليترك الشعراء ماضِيهمْ علي الشٌفق
الجميل ، ويفتحوا غدهمْ بأيديهمْ .
فغنٌِي يا إلهتي الأثيرة ، ياعناة ،
قصيدتي الأولي عن التكوين ثانية “
فقد يجد الرٌواة شهادة الميلاد
للصفصاف في حجري خريفيٌ . وقد يجد
الرعاة البئر في أعماق أغنية . وقد
تأتي الحياة فجاءة للعازفين عن
المعاني من جناح فراشةٍ علِقتْ
بقافيةٍ ، فغنٌِي يا إلهتي الأثيرة
يا عناة ، أنا الطريدة والسهام ،
أنا الكلام . أنا المؤبٌِن والمؤذٌِن
والشهيد

ما قلت للطٌللِ : الوداع . فلم أكنْ
ما كنْت إلاٌ مرٌة . ما كنْت إلاٌ
مرٌة تكفي لأعرف كيف ينكسر الزمان
كخيمة البدويٌِ في ريح الشمال ،
وكيف ينْفطِر المكان ويرتدي الماضي
نثار المعبد المهجور . يشبهني كثيرا
كلٌ ما حولي ، ولم أشْبِهْ هنا
شيئا . كأنٌ الأرض ضيٌِقة علي
المرضي الغنائيٌِين ، أحفادِ الشياطين
المساكين المجانين الذين إذا رأوا
حلْما جميلا لقٌنوا الببغاء شِعْر
الحب ، وانفتحتْ أمامهم الحدود “

وأريد أن أحيا “
فلي عمل علي ظهر السفينة . لا
لأنقذ طائرا من جوعنا أو من
دوارِ البحر ، بل لأشاهِد الطوفان
عن كثبي : وماذا بعد ؟ ماذا
يفعل الناجون بالأرض العتيقة ؟
هل يعيدون الحكاية ؟ ما البداية ؟
ما النهاية ؟ لم يعد أحد من
الموتي ليخبرنا الحقيقة “ /
أيٌها الموت انتظرني خارج الأرض ،
انتظرني في بلادِك ، ريثما أنهي
حديثا عابرا مع ما تبقٌي من حياتي
قرب خيمتك ، انتظِرْني ريثما أنهي
قراءة طرْفة بنِ العبْد . يغْريني
الوجوديٌون باستنزاف كلٌِ هنيْهةي
حرية ، وعدالة ، ونبيذ آلهةٍ “ /
فيا موْت ! انتظرني ريثما أنهي
تدابير الجنازة في الربيع الهشٌ ،
حيث ولدت ، حيث سأمنع الخطباء
من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
وعن صمود التينِ والزيتونِ في وجه
الزمان وجيشِهِ . سأقول : صبٌوني
بحرف النون ، حيث تعبٌ روحي
سورة الرحمن في القرآن . وامشوا
صامتين معي علي خطوات أجدادي
ووقع الناي في أزلي . ولا
تضعوا علي قبري البنفسج ، فهْو
زهْر المحْبطين يذكٌِر الموتي بموت
الحبٌِ قبل أوانِهِ . وضعوا علي
التابوتِ سبْع سنابلي خضراء إنْ
وجِدتْ ، وبعْض شقائقِ النعْمانِ إنْ
وجِدتْ . وإلاٌ ، فاتركوا ورْد
الكنائس للكنائس والعرائس /
أيٌها الموت انتظر ! حتي أعِدٌ
حقيبتي : فرشاة أسناني ، وصابوني
وماكنة الحلاقةِ ، والكولونيا ، والثياب .
هل المناخ هناك معْتدِل ؟ وهل
تتبدٌل الأحوال في الأبدية البيضاء ،
أم تبقي كما هِي في الخريف وفي
الشتاء ؟ وهل كتاب واحد يكفي
لِتسْلِيتي مع اللاٌوقتِ ، أمْ أحتاج
مكتبة ؟ وما لغة الحديث هناك ،
دارجة لكلٌِ الناس أم عربيٌة
فصْحي/

.. ويا موْت انتظرْ ، يا موت ،
حتي أستعيد صفاء ذِهْني في الربيع
وصحٌتي ، لتكون صيٌادا شريفا لا
يصيد الظٌبْي قرب النبع . فلتكنِ العلاقة
بيننا ودٌيٌة وصريحة : لك أنت
مالك من حياتي حين أملأها ..
ولي منك التأمٌل في الكواكب :
لم يمتْ أحد تماما ، تلك أرواح
تغيٌِر شكْلها ومقامها /
يا موت ! يا ظلٌِي الذي
سيقودني ، يا ثالث الاثنين ، يا
لوْن التردٌد في الزمرٌد والزٌبرْجدِ ،
يا دم الطاووس ، يا قنٌاص قلب
الذئب ، يا مرض الخيال ! اجلسْ
علي الكرسيٌ ! ضعْ أدواتِ صيدك
تحت نافذتي . وعلٌِقْ فوق باب البيت
سلسلة المفاتيح الثقيلة ! لا تحدٌِقْ
يا قويٌ إلي شراييني لترصد نقْطة
الضعف الأخيرة . أنت أقوي من
نظام الطبٌ . أقوي من جهاز
تنفٌسي . أقوي من العسلِ القويٌ ،
ولسْت محتاجا ­ لتقتلني ­ إلي مرضي .
فكنْ أسْمي من الحشرات . كنْ منْ
أنت ، شفٌافا بريدا واضحا للغيب .
كن كالحبٌِ عاصفة علي شجر ، ولا
تجلس علي العتبات كالشحٌاذ أو جابي
الضرائبِ . لا تكن شرطيٌ سيْري في
الشوارع . كن قويٌا ، ناصع الفولاذ ، واخلعْ عنك أقنعة
الثعالب . كنْ
فروسيا ، بهيا ، كامل الضربات . قلْ
ما شئْت : (( من معني إلي معني
أجيء . هِي الحياة سيولة ، وأنا
أكثٌِفها ، أعرٌِفها بسلْطاني وميزاني )) .. /
وياموْت انتظرْ ، واجلس علي
الكرسيٌ . خذْ كأس النبيذ ، ولا
تفاوِضْني ، فمثلك لا يفاوِض أيٌ
إنساني ، ومثلي لا يعارض خادم
الغيبِ . استرح “ فلربٌما أنْهِكْت هذا
اليوم من حرب النجوم . فمن أنا
لتزورني ؟ ألديْك وقْت لاختبار
قصيدتي . لا . ليس هذا الشأن
شأنك . أنت مسؤول عن الطينيٌِ في
البشريٌِ ، لا عن فِعْلِهِ أو قوْلِهِ /
هزمتْك يا موت الفنون جميعها .
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد
الرافدين . مِسلٌة المصريٌ ، مقبرة الفراعنةِ ،
النقوش علي حجارة معبدي هزمتْك
وانتصرتْ ، وأِفْلت من كمائنك
الخلود “
فاصنع بنا ، واصنع بنفسك ما تريد

وأنا أريد ، أريد أن أحيا “
فلي عمل علي جغرافيا البركان .
من أيام لوط إلي قيامة هيروشيما
واليباب هو اليباب . كأنني أحيا
هنا أبدا ، وبي شبق إلي ما لست
أعرف . قد يكون الآن أبعد .
قد يكون الأمس أقرب . والغد الماضي .
ولكني أشدٌ الآن من يدِهِ ليعبر
قربي التاريخ ، لا الزٌمن المدوٌر ،
مثل فوضي الماعز الجبليٌِ . هل
أنجو غدا من سرعة الوقت الإلكترونيٌ ،
أم أنجو غدا من بطْء قافلتي
علي الصحراء؟ لي عمل لآخرتي
كأني لن أعيش غدا. ولي عمل ليومي
حاضري أبدا . لذا أصغي ، علي مهلي
علي مهل ، لصوت النمل في قلبي :
أعينوني علي جلدي . وأسمع صرْخة
الحجر الأسيرة : حرٌِروا جسدي . وأبصر
في الكمنجة هجرة الأشواق من بلدي
ترابيٌ إلي بلدي سماويٌ . وأقبض في
يد الأنثي علي أبدِي الأليفِ : خلِقت
ثم عشِقْت ، ثم زهقت ، ثم أفقت
في عشْبي علي قبري يدلٌ عليٌ من
حيني إلي حيني . فما نفْع الربيع
السمح إن لم يؤْنِس الموتي ويكْمِلْ
بعدهمْ فرح الحياةِ ونضْرة النسيان ؟
تلك طريقة في فكٌِ لغز الشعرِ ،
شعري العاطفيٌ علي الأقلٌِ . وما
المنام سوي طريقنا الوحيدة في الكلام /
وأيٌها الموت التبِسْ واجلسْ
علي بلٌوْرِ أيامي ، كأنٌك واحد من
أصدقائي الدائمين ، كأنٌك المنفيٌ بين
الكائنات . ووحدك المنفيٌ . لا تحيا
حياتك . ما حياتك غير موتي . لا
تعيش ولا تموت . وتخطف الأطفال
من عطشِ الحليب إلي الحليب . ولم
تكن طفلا تهزٌ له الحساسين السرير ،
ولم يداعِبْك الملائكة الصغار ولا
قرون الأيٌِل الساهي ، كما فعلتْ لنا
نحن الضيوف علي الفراشة . وحدك
المنفيٌ ، يا مسكين ، لا امرأة تضمٌك
بين نهديها ، ولا امرأة تقاسِمك
الحنين إلي اقتصاد الليل باللفظ الإباحيٌِ
المرادفِ لاختلاط الأرض فينا بالسماءِ .
ولم تلِدْ ولدا يجيئك ضارعا : أبتي ،
أحبٌك . وحدك المنفيٌ ، يا ملِك
الملوك ، ولا مديح لصولجانك . لا
صقور علي حصانك . لا لآلئ حول
تاجك . أيٌها العاري من الرايات
والبوق المقدٌسِ ! كيف تمشي هكذا
من دون حرٌاسي وجوْقةِ منشدين ،
كمِشْية اللصٌِ الجبان . وأنت منْ
أنت ، المعظٌم ، عاهل الموتي ، القويٌ ،
وقائد الجيش الأشوريٌِ العنيد
فاصنع بنا ، واصنع بنفسك ما تريد

وأنا أريد ، أريد أن أحيا ، وأن
أنساك “. أن أنسي علاقتنا الطويلة
لا لشيءي ، بل لأقرأ ما تدوٌِنه
السماوات البعيدة من رسائل . كلٌما
أعددت نفسي لانتظار قدومِك
ازددت ابتعادا . كلما قلت : ابتعدْ
عني لأكمل دوْرة الجسديْنِ ، في جسدي
يفيض ، ظهرت ما بيني وبيني
ساخرا : لا تنْس موْعِدنا “
­ متي ؟ ­ في ذِرْوة النسيان
حين تصدٌِق الدنيا وتعبد خاشعا
خشب الهياكل والرسوم علي جدار الكهف ،
حيث تقول : آثاري أنا وأنا ابن نفسي . ­ أين موعدنا ؟
أتأذن لي بأن أختار مقهي عند
باب البحر ؟ ­ لا “. لا تقْترِبْ
يا ابن الخطيئةِ ، يا ابن آدم من
حدود الله ! لم تولدْ لتسأل ، بل
لتعمل “. ­ كن صديقا طيٌِبا يا
موت ! كنْ معني ثقافيا لأدرك
كنْه حكمتِك الخبيئةِ ! ربٌما أسْرعْت
في تعليم قابيل الرماية . ربٌما
أبطأت في تدريب أيٌوبي علي
الصبر الطويل . وربما أسْرجْت لي
فرسا لتقتلني علي فرسي . كأني
عندما أتذكٌر النسيان تنقِذ حاضري
لغتي . كأني حاضر أبدا . كأني
طائر أبدا . كأني مذْ عرفتك
أدمنتْ لغتي هشاشتها علي عرباتك
البيضاءِ ، أعلي من غيوم النوم ،
أعلي عندما يتحرٌر الإحساس من عبء
العناصر كلٌها . فأنا وأنت علي طريق
الله صوفيٌانِ محكومان بالرؤيا ولا يريان /
عدْ يا موْت وحدك سالما ،
فأنا طليق ههنا في لا هنا
أو لا هناك . وعدْ إلي منفاك
وحدك . عدْ إلي أدوات صيدك ،
وانتظرني عند باب البحر . هيٌِئ لي
نبيذا أحمر للاحتفال بعودتي لِعِيادةِ
الأرضِ المريضة . لا تكن فظٌا غليظ
القلب ! لن آتي لأسخر منك ، أو
أمشي علي ماء البحيْرة في شمال
الروح . لكنٌِي ­ وقد أغويتني ­ أهملت
خاتمة القصيدةِ : لم أزفٌ إلي أبي
أمٌِي علي فرسي . تركت الباب مفتوحا
لأندلسِ الغنائيٌِين ، واخترت الوقوف
علي سياج اللوز والرمٌان ، أنفض
عن عباءة جدٌِي العالي خيوط
العنكبوت . وكان جيْش أجنبيٌ يعبر
الطرق القديمة ذاتها ، ويقِيس أبعاد
الزمان بآلة الحرب القديمة ذاتها “ /
يا موت ، هل هذا هو التاريخ ،
صِنْوك أو عدوٌك ، صاعدا ما بين
هاويتين ؟ قد تبني الحمامة عشٌها
وتبيض في خوذ الحديد . وربما ينمو
نبات الشٌِيحِ في عجلاتِ مرْكبةٍ محطٌمةٍ .
فماذا يفعل التاريخ ، صنوك أو عدوٌك ،
بالطبيعة عندما تتزوٌج الأرض السماء
وتذرف المطر المقدٌس ؟ /

أيها الموت ، انتظرني عند باب
البحر في مقهي الرومانسيٌِين . لم
أرجِعْ وقد طاشتْ سهامك مرٌة
إلاٌ لأودِع داخلي في خارجي ،
وأوزٌِع القمح الذي امتلأتْ به روحي
علي الشحرور حطٌ علي يديٌ وكاهلي ،
وأودٌِع الأرض التي تمتصٌني ملحا ، وتنثرني
حشيشا للحصان وللغزالة . فانتظرني
ريثما أنهي زيارتي القصيرة للمكان وللزمان ،
ولا تصدٌِقْني أعود ولا أعود
وأقول : شكرا للحياة !
ولم أكن حيٌا ولا ميْتا
ووحدك ، كنت وحدك ، يا وحيد !

تقول ممرٌِضتي : كنْت تهذي
كثيرا ، وتصرخ : يا قلب !
يا قلْب ! خذْني
إلي دوْرة الماءِ “/
ما قيمة الروح إن كان جسمي
مريضا ، ولا يستطيع القيام
بواجبه الأوليٌِ ؟
فيا قلب ، يا قلب أرجعْ خطاي
إليٌ ، لأمشي إلي دورة الماء
وحدي !

نسيت ذراعيٌ ، ساقيٌ ، والركبتين
وتفٌاحة الجاذبيٌةْ
نسيت وظيفة قلبي
وبستان حوٌاء في أوٌل الأبديٌةْ
نسيت وظيفة عضوي الصغير
نسيت التنفٌس من رئتيٌ .
نسيت الكلام
أخاف علي لغتي
فاتركوا كلٌٌ شيء علي حالِهِ
وأعيدوا الحياة إلي لغتي !..

تقول ممرٌِضتي : كنْت تهذي
كثيرا ، وتصرخ بي قائلا :
لا أريد الرجوع إلي أحدِ
لا أريد الرجوع إلي بلدِ
بعد هذا الغياب الطويل “
أريد الرجوع فقطْ
إلي لغتي في أقاصي الهديل
تقول ممرٌِضتي :
كنْت تهذي طويلا ، وتسألني :
هل الموت ما تفعلين بي الآن
أم هو موْت اللغةْ ؟

خضراء ، أرض قصيدتي خضراء ، عالية “
علي مهلي أدوٌِنها ، علي مهلي ، علي
وزن النوارس في كتاب الماءِ . أكتبها
وأورِثها لمنْ يتساءلون : لمنْ نغنٌِي
حين تنتشر الملوحة في الندي ؟ “
خضراء ، أكتبها علي نثْرِ السنابل في
كتاب الحقلِ ، قوٌسها امتلاء شاحب
فيها وفيٌ . وكلٌما صادقْت أو
آخيْت سنْبلة تعلٌمْت البقاء من
الفناء وضدٌه : (( أنا حبٌة القمح
التي ماتت لكي تخْضرٌ ثانية . وفي
موتي حياة ما “ ))

كأني لا كأنٌي
لم يمت أحد هناك نيابة عني .
فماذا يحفظ الموتي من الكلمات غير
الشٌكْرِ : إنٌ الله يرحمنا “
ويؤْنِسني تذكٌر ما نسِيت مِن
البلاغة : لم ألِدْ ولدا ليحمل موْت
والِدِهِ “
وآثرْت الزواج الحرٌ بين المفْردات “.
ستعْثر الأنثي علي الذٌٌكر الملائِمِ
في جنوح الشعر نحو النثر “.
سوف تشٌبٌ أعضائي علي جمٌيزةٍ ،
ويصبٌ قلبي ماءه الأرضيٌ في
أحدِ الكواكب “ منْ أنا في الموت
بعدي ؟ منْ أنا في الموت قبلي
قال طيف هامشيٌ : (( كان أوزيريس
مثْلك ، كان مثلي . وابن مرْيم
كان مثلك ، كان مثلي . بيْد أنٌ
الجرْح في الوقت المناسب يوجِع
العدم المريض ، ويرْفع الموت المؤقٌٌت
فكرة “ )).
من أين تأتي الشاعريٌة ؟ من
ذكاء القلب ، أمْ من فِطْرة الإحساس
بالمجهول ؟ أمْ من وردةٍ حمراء
في الصحراء ؟ لا الشخصيٌ شخصيٌ
ولا الكونيٌ كونيٌ “

كأني لا كأني “/
كلما أصغيت للقلب امتلأت
بما يقول الغيْب ، وارتفعتْ بِي
الأشجار . من حلْم إلي حلْمي
أطير وليس لي هدف أخير .
كنْت أولد منذ آلاف السنين
الشاعريٌةِ في ظلامي أبيض الكتٌان
لم أعرف تماما منْ أنا فينا ومن
حلْمي . أنا حلْمي
كأني لا كأني “
لم تكنْ لغتي تودٌِع نبْرها الرعويٌ
إلاٌ في الرحيل إلي الشمال . كلابنا
هدأتْ . وماعِزنا توشٌح بالضباب علي
التلال . وشجٌ سهْم طائش وجْه
اليقين . تعبت من لغتي تقول ولا
تقول علي ظهور الخيل ماذا يصنع
الماضي بأيٌامِ امرئ القيس الموزٌعِ
بين قافيةٍ وقيْصر “/
كلٌما يمٌمْت وجهي شطْر آلهتي ،
هنالك ، في بلاد الأرجوان أضاءني
قمر تطوٌِقه عناة ، عناة سيٌِدة
الكِنايةِ في الحكايةِ . لم تكن تبكي علي
أحدِ ، ولكنْ من مفاتِنِها بكتْ :
هلْ كلٌ هذا السحرِ لي وحدي
أما من شاعري عندي
يقاسِمني فراغ التخْتِ في مجدي ؟
ويقطف من سياج أنوثتي
ما فاض من وردي ؟
أما من شاعر يغْوي
حليب الليل في نهدي ؟
أنا الأولي
أنا الأخري
وحدٌِي زاد عن حدٌِي
وبعدي تركض الغِزلان في الكلمات
لا قبلي “ ولا بعدي /

سأحلم ، لا لأصْلِح مركباتِ الريحِ
أو عطبا أصاب الروح
فالأسطورة اتٌخذتْ مكانتها / المكيدة
في سياق الواقعيٌ . وليس في وسْعِ القصيدة
أن تغيٌِر ماضيا يمضي ولا يمضي
ولا أنْ توقِف الزلزال
لكني سأحلم ،
ربٌما اتسعتْ بلاد لي ، كما أنا
واحدا من أهل هذا البحر ،
كفٌ عن السؤال الصعب : (( منْ أنا ؟ “
هاهنا ؟ أأنا ابن أمي ؟ ))
لا تساوِرني الشكوك ولا يحاصرني
الرعاة أو الملوك . وحاضري كغدي معي .
ومعي مفكٌِرتي الصغيرة : كلٌما حكٌ
السحابة طائر دوٌنت : فكٌ الحلْم
أجنحتي . أنا أيضا أطير . فكلٌ
حيٌ طائر . وأنا أنا ، لا شيء
آخر /

واحد من أهل هذا السهل “
في عيد الشعير أزور أطلالي
البهيٌة مثل وشْم في الهوِيٌةِ .
لا تبدٌِدها الرياح ولا تؤبٌِدها “ /
وفي عيد الكروم أعبٌ كأسا
من نبيذ الباعة المتجوٌِلين “ خفيفة
روحي ، وجسمي مثْقل بالذكريات وبالمكان /
وفي الربيع ، أكون خاطرة لسائحةٍ
ستكتب في بطاقات البريد : (( علي
يسار المسرح المهجور سوْسنة وشخْص
غامض . وعلي اليمين مدينة عصريٌة )) /

وأنا أنا ، لا شيء آخر “
لسْت من أتباع روما الساهرين
علي دروب الملحِ . لكنٌِي أسدٌِد نِسْبة
مئويٌة من ملح خبزي مرْغما ، وأقول
للتاريخ : زيٌِنْ شاحناتِك بالعبيد وبالملوك الصاغرين ، ومرٌ
“ لا أحد يقول
الآن : لا .

وأنا أنا ، لا شيء آخر
واحد من أهل هذا الليل . أحلم
بالصعود علي حصاني فوْق ، فوْق “
لأتبع الينْبوع خلف التلٌِ
فاصمدْ يا حصاني . لم نعدْ في الريح مخْتلِفيْنِ

أنت فتوٌتي وأنا خيالك . فانتصِبْ
ألِفا ، وصكٌ البرق . حكٌ بحافر
الشهوات أوعية الصدي . واصعدْ ،
تجدٌدْ ، وانتصبْ ألفا ، توتٌرْ يا
حصاني وانتصبْ ألفا ، ولا تسقطْ
عن السفح الأخير كرايةي مهجورةٍ في
الأبجديٌة . لم نعدْ في الريح مخْتلِفيْنِ ،
أنت تعِلٌتي وأنا مجازك خارج الركب
المروٌضِ كالمصائرِ . فاندفِعْ واحفرْ زماني
في مكاني يا حصاني . فالمكان هو
الطريق ، ولا طريق علي الطريق سواك
تنتعل الرياح . أضئْ نجوما في السراب !
أضئْ غيوما في الغياب ، وكنْ أخي
ودليل برقي يا حصاني . لا تمتْ
قبلي ولا بعدي علي السفح الأخير
ولا معي . حدٌِقْ إلي سيٌارة الإسعافِ
والموتي “ لعلٌِي لم أزل حيٌا /

سأحلم ، لا لأصْلِح أيٌ معني خارجي .
بل كي أرمٌِم داخلي المهجور من أثر
الجفاف العاطفيٌِ . حفظت قلبي كلٌه
عن ظهر قلبي : لم يعدْ متطفٌِلا
ومدلٌلا . تكْفيهِ حبٌة أسبرين لكي
يلين ويستكين . كأنٌه جاري الغريب
ولست طوْع هوائِهِ ونسائِهِ . فالقلب
يصْدأ كالحديدِ ، فلا يئنٌ ولا يحِنٌ
ولا يجنٌ بأوٌل المطر الإباحيٌِ الحنينِ ،
ولا يرنٌ ٌكعشب آب من الجفافِ .
كأنٌ قلبي زاهد ، أو زائد
عني كحرف الكاف في التشبيهِ
حين يجفٌ ماء القلب تزداد الجماليات
تجريدا ، وتدٌثر العواطف بالمعاطفِ ،
والبكارة بالمهارة /

كلٌما يمٌمْت وجهي شطْر أولي
الأغنيات رأيت آثار القطاة علي
الكلام . ولم أكن ولدا سعيدا
كي أقول : الأمس أجمل دائما .
لكنٌ للذكري يديْنِ خفيفتين تهيٌِجانِ
الأرض بالحمٌي . وللذكري روائح زهرةٍ
ليليٌةٍ تبكي وتوقظ في دمِ المنفيٌِ
حاجته إلي الإنشاد : (( كوني
مرْتقي شجني أجدْ زمني )) “ ولست
بحاجةٍ إلاٌ لِخفْقةِ نوْرسِ لأتابع
السفن القديمة . كم من الوقت
انقضي منذ اكتشفنا التوأمين : الوقت
والموت الطبيعيٌ المرادِف للحياة ؟
ولم نزل نحيا كأنٌ الموت يخطئنا ،
فنحن القادرين علي التذكٌر قادرون
علي التحرٌر ، سائرون علي خطي
جلجامش الخضراءِ من زمني إلي زمني “ /

هباء كامل التكوينِ “
يكسرني الغياب كجرٌةِ الماءِ الصغيرة .
نام أنكيدو ولم ينهض . جناحي نام
ملْتفٌا بحفْنةِ ريشِهِ الطينيٌِ . آلهتي
جماد الريح في أرض الخيال . ذِراعِي
اليمْني عصا خشبيٌة . والقلْب مهجور
كبئري جفٌ فيها الماء ، فاتٌسع الصدي
الوحشيٌ : أنكيدو ! خيالي لم يعدْ
يكفي لأكمل رحلتي . لا بدٌ لي من
قوٌةي ليكون حلْمي واقعيٌا . هاتِ
أسْلِحتي ألمٌِعْها بمِلح الدمعِ . هاتِ
الدمع ، أنكيدو ، ليبكي الميْت فينا
الحيٌ . ما أنا ؟ منْ ينام الآن
أنكيدو ؟ أنا أم أنت ؟ آلهتي
كقبض الريحِ . فانهضْ بي بكامل
طيشك البشريٌِ ، واحلمْ بالمساواةِ
القليلةِ بين آلهة السماء وبيننا . نحن
الذين نعمٌِر الأرض الجميلة بين
دجلة والفراتِ ونحفظ الأسماء . كيف
مللْتني ، يا صاحبي ، وخذلْتني ، ما نفْع حكمتنا بدون
فتوٌةٍ “ ما نفع حكمتنا ؟ علي باب المتاهِ خذلتني ،
يا صاحبي ، فقتلتني ، وعليٌ وحدي
أن أري ، وحدي ، مصائرنا . ووحدي
أحمل الدنيا علي كتفيٌ ثورا هائجا .
وحدي أفتٌِش شارد الخطوات عن
أبديتي . لا بدٌ لي من حلٌِ هذا
اللغْزِ ، أنكيدو ، سأحمل عنك
عمْرك ما استطعت وما استطاعت
قوٌتي وإرادتي أن تحملاك . فمن
أنا وحدي ؟ هباء كامل التكوينِ
من حولي . ولكني سأسْنِد ظلٌٌك
العاري علي شجر النخيل . فأين ظلٌك ؟
أين ظلٌك بعدما انكسرتْ جذوعك؟
قمٌة
الإنسان
هاوية “
ظلمتك حينما قاومت فيك الوحْش ،
بامرأةٍ سقتْك حليبها ، فأنِسْت “
واستسلمت للبشريٌِ . أنكيدو ، ترفٌقْ
بي وعدْ من حيث متٌ ، لعلٌنا
نجد الجواب ، فمن أنا وحدي ؟
حياة الفرد ناقصة ، وينقصني
السؤال ، فمن سأسأل عن عبور
النهر ؟ فانهضْ يا شقيق الملح
واحملني . وأنت تنام هل تدري
بأنك نائم ؟ فانهض .. كفي نوما !
تحرٌكْ قبل أن يتكاثر الحكماء حولي
كالثعالب : ( كلٌ شيء باطل ، فاغنمْ
حياتك مثلما هِي برهة حبْلي بسائلها ،
دمِ العشْب المقطٌرِ . عِشْ ليومك لا
لحلمك . كلٌ شيء زائل . فاحذرْ
غدا وعشِ الحياة الآن في امرأةٍ
تحبٌك . عِشْ لجسمِك لا لِوهْمِك .
وانتظرْ
ولدا سيحمل عنك روحك
فالخلود هو التٌناسل في الوجود .
وكلٌ شيءٍ باطل أو زائل ، أو
زائل أو باطل)
منْ أنا ؟
أنشيد الأناشيد
أم حِكْمة الجامعةْ ؟
وكلانا أنا “
وأنا شاعر
وملِكْ
وحكيم علي حافٌة البئرِ
لا غيمة في يدي
ولا أحد عشر كوكبا
علي معبدي
ضاق بي جسدي
ضاق بي أبدي
وغدي
جالس مثل تاج الغبار
علي مقعدي

باطل ، باطل الأباطيل “ باطلْ
كلٌ شيء علي البسيطة زائلْ

ألرياح شماليٌة
والرياح جنوبيٌة
تشْرِق الشمس من ذاتها
تغْرب الشمس في ذاتها
لا جديد ، إذا
والزمنْ
كان أمسِ ،
سدي في سدي .
ألهياكل عالية
والسنابل عالية
والسماء إذا انخفضت مطرتْ
والبلاد إذا ارتفعت أقفرت
كلٌ شيء إذا زاد عن حدٌِهِ
صار يوما إلي ضدٌِهِ .
والحياة علي الأرض ظلٌ

لما لا نري “.
باطل ، باطل الأباطيل “ باطلْ
كلٌ شيء علي البسيطة زائلْ

1400 مركبة
و12,000 فرس
تحمل اسمي المذهٌب من
زمني نحو آخر “
عشت كما لم يعِشْ شاعر
ملكا وحكيما “
هرِمْت ، سئِمْت من المجدِ
لا شيء ينقصني
ألهذا إذا
كلما ازداد علمي
تعاظم همٌِي ؟
فما أورشليم وما العرْش ؟
لا شيء يبقي علي حالِه
للولادة وقْت
وللموت وقت
وللصمت وقْت
وللنٌطق وقْت
وللحرب وقْت
وللصٌلحِ وقْت
وللوقتِ وقْت
ولا شيء يبقي علي حالِهِ “
كلٌ نهْري سيشربه البحر
والبحر ليس بملآن ،
لاشيء يبقي علي حالِهِ
كلٌ حيٌ يسير إلي الموت
والموت ليس بملآن ،
لا شيء يبقي سوي اسمي المذهٌبِ
بعدي :
(( سليمان كان )) “
فماذا سيفعل موتي بأسمائهم
هل يضيء الذٌهبْ
ظلمتي الشاسعةْ
أم نشيد الأناشيد
والجامعةْ ؟

باطل ، باطل الأباطيل “ باطلْ
كلٌ شيء علي البسيطة زائلْ /“

مثلما سار المسيح علي البحيْرةِ ،
سرت في رؤياي . لكنٌِي نزلت عن
الصليب لأنني أخشي العلوٌ ،ولا
أبشٌِر بالقيامةِ . لم أغيٌِرْ غيْر
إيقاعي لأسمع صوت قلبي واضحا .
للملحميٌِين النٌسور ولي أنا : طوق
الحمامةِ ، نجمة مهجورة فوق السطوح ،
وشارع متعرٌِج يفْضي إلي ميناءِ
عكا ­ ليس أكثر أو أقلٌ ­
أريد أن ألقي تحيٌاتِ الصباح عليٌ
حيث تركتني ولدا سعيدا لم
أكنْ ولدا سعيد الحظٌِ يومئذٍ ،
ولكنٌ المسافة، مثل حدٌادين ممتازين ،
تصنع من حديدي تافهي قمرا
­ أتعرفني ؟
سألت الظلٌ قرب السورِ ،
فانتبهتْ فتاة ترتدي نارا ،
وقالت : هل تكلٌِمني ؟
فقلت : أكلٌِم الشبح القرين
فتمتمتْ : مجنون ليلي آخر يتفقٌٌد
الأطلال ،
وانصرفتْ إلي حانوتها في آخر السوق
القديمةِ“
ههنا كنٌا . وكانت نخْلتانِ تحمٌِلان
البحر بعض رسائلِ الشعراءِ “
لم نكبر كثيرا يا أنا . فالمنظر
البحريٌ ، والسٌور المدافِع عن خسارتنا ،
ورائحة البخور تقول : ما زلنا هنا ،
حتي لو انفصل الزمان عن المكانِ .
لعلٌنا لم نفترق أبدا
­ أتعرفني ؟
بكي الولد الذي ضيٌعته :
((لم نفترق . لكننا لن نلتقي أبدا )) “
وأغْلق موجتين صغيرتين علي ذراعيه ،
وحلٌٌق عاليا “
فسألت : منْ منٌا المهاجِر ؟ /
قلت للسٌجٌان عند الشاطئ الغربيٌ :
­ هل أنت ابن سجٌاني القديمِ ؟
­ نعم !
­ فأين أبوك ؟
قال : أبي توفٌِي من سنين.
أصيب بالإحباط من سأم الحراسة .
ثم أوْرثني مهمٌته ومهنته ، وأوصاني
بان أحمي المدينة من نشيدك “
قلْت : منْذ متي تراقبني وتسجن
فيٌ نفسك ؟
قال : منذ كتبت أولي أغنياتك
قلت : لم تك قد ولِدْت
فقال : لي زمن ولي أزليٌة ،
وأريد أن أحيا علي إيقاعِ أمريكا
وحائطِ أورشليم
فقلت : كنْ منْ أنت . لكني ذهبت .
ومنْ تراه الآن ليس أنا ، أنا شبحي
فقال : كفي ! ألسْت اسم الصدي
الحجريٌِ ؟ لم تذهبْ ولم ترْجِعْ إذا .
ما زلت داخل هذه الزنزانة الصفراءِ .
فاتركني وشأني !
قلت : هل ما زلت موجودا
هنا ؟ أأنا طليق أو سجين دون
أن أدري . وهذا البحر خلف السور بحري ؟
قال لي : أنت السجين ، سجين
نفسِك والحنينِ . ومنْ تراه الآن
ليس أنا . أنا شبحي
فقلت محدٌِثا نفسي : أنا حيٌ
وقلت : إذا التقي شبحانِ
في الصحراء ، هل يتقاسمانِ الرمل ،
أم يتنافسان علي احتكار الليل ؟ /

المقطع قبل الأخير
كانت ساعة الميناءِ تعمل وحدها
لم يكترثْ أحد بليل الوقت ، صيٌادو
ثمار البحر يرمون الشباك ويجدلون
الموج . والعشٌاق في ال ديسكو .
وكان الحالمون يربٌِتون القبٌراتِ النائماتِ
ويحلمون “
وقلت : إن متٌ انتبهت “
لديٌ ما يكفي من الماضي
وينقصني غد “
سأسير في الدرب القديم علي
خطاي ، علي هواءِ البحر . لا
امرأة تراني تحت شرفتها . ولم
أملكْ من الذكري سوي ما ينفع
السٌفر الطويل . وكان في الأيام
ما يكفي من الغد . كنْت أصْغر
من فراشاتي ومن غمٌازتينِ :
خذي النٌعاس وخبٌِئيني في
الرواية والمساء العاطفيٌ /
وخبٌِئيني تحت إحدي النخلتين /
وعلٌِميني الشِعْر / قد أتعلٌم
التجوال في أنحاء هومير / قد
أضيف إلي الحكاية وصْف
عكا / أقدمِ المدنِ الجميلةِ ،
أجملِ المدن القديمةِ / علبة
حجريٌة يتحرٌك الأحياء والأموات
في صلصالها كخليٌة النحل السجين
ويضْرِبون عن الزهور ويسألون
البحر عن باب الطوارئ كلٌما
اشتدٌ الحصار / وعلٌِميني الشِعْر /
قد تحتاج بنت ما إلي أغنية
لبعيدها : (( خذْني ولو قسْرا
إليك ، وضعْ منامي في
يديْك )) . ويذهبان إلي الصدي
متعانِقيْنِ / كأنٌني زوٌجت ظبيا
شاردا لغزالةي / وفتحت أبواب
الكنيسةِ للحمام “ / وعلٌِميني
الشِعْر / منْ غزلتْ قميص
الصوف وانتظرتْ أمام الباب
أوْلي بالحديث عن المدي ، وبخيْبةِ
الأملِ : المحارب لم يعدْ ، أو
لن يعود ، فلست أنت من
انتظرت “ /

ومثلما سار المسيح علي البحيرة “
سرت في رؤياي . لكنٌِي نزلت عن
الصليب لأنني أخشي العلوٌ ولا
أبشٌِر بالقيامة . لم أغيٌِر غير إيقاعي
لأسمع صوت قلبي واضحا “
للملحميٌِين النسور ولي أنا طوْق
الحمامة ، نجْمة مهجورة فوق السطوح ،
وشارع يفضي إلي الميناء “ /
هذا البحر لي
هذا الهواء الرٌطْب لي
هذا الرصيف وما عليْهِ
من خطاي وسائلي المنويٌِ “ لي
ومحطٌة الباصِ القديمة لي . ولي
شبحي وصاحبه . وآنية النحاس
وآية الكرسيٌ ، والمفتاح لي
والباب والحرٌاس والأجراس لي
لِي حذْوة الفرسِ التي
طارت عن الأسوار “ لي
ما كان لي . وقصاصة الورقِ التي
انتزِعتْ من الإنجيل لي
والملْح من أثر الدموع علي
جدار البيت لي “
واسمي ، إن أخطأت لفْظ اسمي
بخمسة أحْرفي أفقيٌةِ التكوين لي :
ميم / المتيٌم والميتٌم والمتمٌِم ما مضي
حاء / الحديقة والحبيبة ، حيرتانِ وحسرتان
ميم / المغامِر والمعدٌ المسْتعدٌ لموته
الموعود منفيٌا ، مريض المشْتهي
واو / الوداع ، الوردة الوسطي ،
ولاء للولادة أينما وجدتْ ، ووعْد الوالدين
دال / الدليل ، الدرب ، دمعة
دارةٍ درستْ ، ودوريٌ يدلٌِلني ويدْميني /
وهذا الاسم لي “
ولأصدقائي ، أينما كانوا ، ولي
جسدي المؤقٌت ، حاضرا أم غائبا “
مِتْرانِ من هذا التراب سيكفيان الآن “
لي مِتْر و75 سنتمترا “
والباقي لِزهْري فوْضويٌ اللونِ ،
يشربني علي مهلي ، ولي
ما كان لي : أمسي ، وما سيكون لي
غدِي البعيد ، وعودة الروح الشريد
كأنٌ شيئا لم يكنْ
وكأنٌ شيئا لم يكن
جرح طفيف في ذراع الحاضر العبثيٌِ “
والتاريخ يسخر من ضحاياه
ومن أبطالِهِ “
يلْقي عليهمْ نظرة ويمرٌ “
هذا البحر لي
هذا الهواء الرٌطْب لي
واسمي ­
وإن أخطأت لفظ اسمي علي التابوت ­
لي .
أما أنا ­ وقد امتلأت
بكلٌِ أسباب الر حيل ­
فلست لي .
أنا لست لي
أنا لست لي “
 




لوصف زهر اللوز
محمود درويش - فلسطين

لوصف زهر اللوز، لا موسوعة الأزهار
تسعفني، ولا القاموس يسعفني...
سيخطفني الكلام إلى أحابيل البلاغة
والبلاغة تجرح المعنى وتمدح جرحه،
كمذكر يملي على الأنثى مشاعرها
فكيف يشع زهر اللوز في لغتي أنا
وأنا الصدى؟
وهو الشفيف كضحكة مائية نبتت
على الأغصان من خفر الندى...
وهو الخفيف كجملة بيضاء موسيقية...
وهو الضعيف كلمح خاطرة
تطل على أصابعنا
ونكتبها سدى
وهو الكثيف كبيت شعر لا يدون
بالحروف
لوصف زهر اللوز تلمزني زيارات إلى
اللاوعي ترشدني إلى أسماء عاطفة
معلقة على الأشجار. ما اسمه؟
ما اسم هذا الشيء في شعرية اللاشيء؟
يلزمني اختراق الجاذبية والكلام،
لكي أحس بخفة الكلمات حين تصير
طيفا هامسا فأكونها وتكونني
شفافة بيضاء
لا وطن ولا منفى هي الكلمات،
بل ولع البياض بوصف زهر اللوز
لا ثلج ولا قطن فما هو في
تعاليه على الأشياء والأسماء
لو نجح المؤلف في كتابة مقطع ٍ
في وصف زهر اللوز، لانحسر الضباب
عن التلال، وقال شعب كامل:
هذا هوَ
هذا كلام نشيدنا الوطني
!
 







هنالك عرس
محمود درويش - فلسطين
 
هنالك عرسٌ علي بعد بيتين
فلا تغلقوا الباب لا تحجبوا نزوة
الفرح الشاذ عنا فإن ذبلت وردة
لا يحس الربيع بواجبه في البكاء
وإن صمت العندليب المريض أعار الكناري
حصته في الغناء وإن وقعت نجمة
لا تصاب السماء بسوء
هنالك عرس
فلا تغلقوا الباب في وجه هذا الهواء
المضمخ بالزنجبيل وخوخ العروس التي
تنضج الآن (تبكي وتضحك كالماء.
لا جرح في الماء. لا أثر لدم
سال في الليل(
قيل: قوي هو الحب كالموت!
قلت: ولكن شهوتنا للحياة
ولو خذلتنا البراهين أقوي من
الحب والموت/
فلننه طقس جنازتنا كي نشارك
جيراننا في الغناء
الحياة بديهية .. وحقيقية كالهباء




 

الجميلات هن الجميلات
محمود درويش - فلسطين

الجميلات هنَّ الجميلاتُ
"نقش الكمنجات في الخاصرة"
الجميلات هنَّ الضعيفاتُ
"
عرشٌ طفيفٌ بلا ذاكرة"
الجميلات هنَّ القوياتُ
"يأسٌ يضيء ولا يحترق"
الجميلات هنَّ الأميرات ُ
"ربَّاتُ وحيٍِ قلق "
الجميلات هنَّ القريباتُ
"
جاراتُ قوس قزح "
الجميلات هنَّ البعيداتُ
"
مثل أغاني الفرح"
الجميلات هنَّ الفقيراتُ
"
مثل الوصيفات في حضرة الملكة"
الجميلات هنَّ الطويلاتُ
"
خالات نخل السماء"
الجميلات هنَّ القصيراتُ
"
يُشرَبْنَ في كأس ماء"
الجميلات هنَّ الكبيراتُ
"
مانجو مقشرةٌ ونبيذٌ معتق"
الجميلات هنَّ الصغيراتُ
"
وَعْدُ غدٍ وبراعم زنبق"
الجميلات، كلّْ الجميلات، أنت ِ
إذا ما اجتمعن ليخترن لي أنبلَ القاتلات



البئر

محمود درويش - فلسطين

 
أختار يومًا غائمًا لأمرّ بالبئر القديمة.
ربّما امتلأت سماءً. ربّما فاضت عن المعنى وعن
أمثولة الراعي. سأشرب حفنةً من مائها.
وأقول للموتى حواليها: سلامًا، أيّها الباقون
حول البئر في ماء الفراشة! أرفع الطّيّون
عن حجرٍ: سلامًا أيها الحجر الصغير! لعلّنا
كنّا جناحي طائرٍ ما زال يوجعنا. سلامًا
أيها القمر المحلّق حول صورته التي لن يلتقي
أبدًا بها! وأقول للسّرو: انتبه ممّا يقول
لك الغبار. لعلّنا كنا هنا وتري كمانٍ
في وليمة حارسات اللازورد. لعلّنا كنّا
ذراعي عاشقٍ...
قد كنت أمشي حذو نفسي: كن قويًّا
يا قريني، وارفع الماضي كقرني ماعزٍ
بيديك، واجلس قرب بئرك. ربّما التفتت
إليك أيائل الوادي ... ولاح الصوت -
صوتك- صورةً حجريّةً للحاضر المكسور...
لم أكمل زيارتي القصيرة بعد للنسيان...
لم آخذ معي أدوات قلبي كلّها:
جرسي على ريح الصنوبر
سلّمي قرب السماء
كواكبي حول السطوح
وبحّتي من لسعة الملح القديم...
وقلت للذكرى: سلامًا يا كلام الجدّة العفويّ
يأخذنا إلى أيّامنا البيضاء تحت نعاسها...
واسمي يرنّ كليرة الذّهب القديمة عند
باب البئر. أسمع وحشة الأسلاف بين
الميم والواو السحيقة مثل وادٍ غير ذي
زرعٍ. وأخفي ثعلبي الوديّ. أعرف أنني
سأعود حيًّا، بعد ساعاتٍ، من البئر التي
لم ألق فيها يوسفًا أو خوف إخوته
من الأصداء. كن حذرًا! هنا وضعتك
أمّك قرب باب البئر، وانصرفت إلى تعويذةٍ...
فاصنع بنفسك ما تشاء. صنعت وحدي ما
أشاء: كبرت ليلاً في الحكاية بين أضلاع
المثلّث: مصر، سوريّا، وبابل. ههنا
وحدي كبرت بلا إلهاتٍ الزراعة.
[كنّ يغسلن الحصى في غابة الزيتون. كنّ مبلّلاتٍ بالندى]...
ورأيت أنّي قد سقطت
عليّ من سفر القوافل، قرب أفعى. لم
أجد أحدًا لأكمله سوى شبحي. رمتني
الأرض خارج أرضها، واسمي يرنّ على خطاي
كحذوة الفرس: اقترب ... لأعود من هذا
الفراغ إليك يا جلجامش الأبديّ في اسمك!..
كن أخي! واذهب معي لنصيح بالبئر
القديمة... ربما امتلأت كأنثى بالسماء،
وربّما فاضت عن المعنى وعمّا سوف
يحدث في انتظار ولادتي من بئري الأولى!
سنشرب حفنةً من مائها،
سنقول للموتى حواليها: سلامًا
أيها الأحياء في ماء الفراش،
وأيّها الموتى، سلامًا!






 




تعاليم حورية

محمود درويش - فلسطين
فكّرت يومًا بالرحيل، فحطّ حسّونٌ على يدها ونام.
وكان يكفي أن أداعب غصن داليةٍ على عجلٍ...
لتدرك أنّ كأس نبيذي امتلأت.
ويكفي أن أنام مبكّرًا لترى منامي واضحًا،
فتطيل ليلتها لتحرسه...
ويكفي أن تجيء رسالةٌ منّي لتعرف أنّ عنواني تغيّر،
فوق قارعة السجون، وأنّ
أيّامي تحوّم حولها... وحيالها
أمّي تعدّ أصابعي العشرين عن بعدٍ.
تمشّطني بخصلة شعرها الذهبيّ.
تبحث في ثيابي الداخليّة عن نساءٍ أجنبيّاتٍ،
وترفو جوريي المقطوع.
لم أكبر على يدها كما شئنا:
أنا وهي، افترقنا عند منحدر الرّخام... ولوّحت سحبٌ لنا،
ولماعزٍ يرث المكان.
وأنشأ المنفى لنا لغتين:
دارجةً... ليفهمها الحمام ويحفظ الذكرى،
وفصحى... كي أفسّر للظلال ظلالها!
ما زلت حيًّا في خضمّك.
لم تقولي ما تقول الأمّ للولد المريض.
مرضت من قمر النحاس على خيام البدو.
هل تتذكرين طريق هجرتنا إلى لبنان،
حيث نسيتني ونسيت كيس الخبز [كان الخبز قمحيًّا].
ولم أصرخ لئلاّ أوقظ الحرّاس.
حطّتني على كتفيك رائحة الندى.
يا ظبيةً فقدت هناك كناسها وغزالها...
لا وقت حولك للكلام العاطفيّ.
عجنت بالحبق الظهيرة كلّها.
وخبزت للسّمّاق عرف الديك.
أعرف ما يخرّب قلبك المثقوب بالطاووس،
منذ طردت ثانيةً من الفردوس.
عالمنا تغيّر كلّه، فتغيّرت أصواتنا.
حتّى التحيّة بيننا وقعت كزرّ الثوب فوق الرمل،
لم تسمع صدًى.
قولي: صباح الخير!
قولي أيّ شيء لي لتمنحني الحياة دلالها.
هي أخت هاجر.
أختها من أمّها.
تبكي مع النايات موتى لم يموتوا.
لا مقابر حول خيمتها لتعرف كيف تنفتح السماء،
ولا ترى الصحراء خلف أصابعي لترى حديقتها على وجه السراب،
فيركض الزّمن القديم
بها إلى عبثٍ ضروريٍّ:
أبوها طار مثل الشركسيّ على حصان العرس.
أمّا أمّها فلقد أعدّت،
دون أن تبكي، لزوجة زوجها حنّاءها،
وتفحّصت خلخالها...
لا نلتقي إلاّ وداعًا عند مفترق الحديث.
تقول لي مثلاً: تزوّج أيّة امرأة من
الغرباء، أجمل من بنات الحيّ.
لكن، لا تصدّق أيّة امرأة سواي.
ولا تصدّق ذكرياتك دائمًا.
لا تحترق لتضيء أمّك، تلك مهنتها الجميلة.
لا تحنّ إلى مواعيد الندى.
كن واقعيًّا كالسماء.
ولا تحنّ إلى عباءة جدّك السوداء،
أو رشوات جدّتك الكثيرة،
وانطلق كالمهر في الدنيا. وكن من أنت حيث تكون.
واحمل عبء قلبك وحده...
وارجع إذا اتّسعت بلادك للبلاد وغيّرت أحوالها...
أمّي تضيء نجوم كنعان الأخيرة،
حول مرآتي،
وترمي، في قصيدتي الأخيرة، شالها!




 



ليلٌ يفيض من الجسد

محمود درويش - فلسطين
ياسمينٌ على ليل تمّوز، أغنيّةٌ
لغريبين يلتقيان على شارعٍ
لا يؤدّي إلى هدفٍ ...
من أنا بعد عينين لوزيّتين? يقول الغريب
من أنا بعد منفاك فيّ? تقول الغريبة.
إذن، حسنًا، فلنكن حذرين لئلا
نحرّك ملح البحار القديمة في جسدٍ يتذكّر...
كانت تعيد له جسدًا ساخنًا،
ويعيد لها جسدًا ساخنًا.
هكذا يترك العاشقان الغريبان حبّهما فوضويًّا،
كما يتركان ثيابهما الداخليّة بين زهور الملاءات...
- إن كنت حقًا حبيبي، فألّف
نشيد أناشيد لي، واحفر اسمي
على جذع رمّانةٍ في حدائق بابل...
- إن كنت حقًا تحبّينني، فضعي
حلمي في يديّ. وقولي له، لابن مريم،
كيف فعلت بنا ما فعلت بنفسك،
يا سيّدي? هل لدينا من العدل ما سوف
يكفي ليجعلنا عادلين غدًا?
- كيف أشفى من الياسمين غدًا ؟
- كيف أشفى من الياسمين غدًا ؟
يعتمان معًا في ظلالٍ تشعّ على
سقف غرفته: لا تكن معتمًا
بعد نهديّ - قالت له ...
قال: نهداك ليلٌ يضيء الضروريّ
نهداك ليلٌ يقبّلني. وامتلأنا أنا
والمكان بليلٍ يفيض من الكأس ...
تضحك من وصفه. ثم تضحك أكثر
حين تخبّئ منحدر الليل في يدها...
- يا حبيبي، لو كان لي
أن أكون صبيًّا... لكنتك أنت
- ولو كان لي أن أكون فتاةً
لكنتك أنت!...
وتبكي، كعادتها، عند عودتها
من سماءٍ نبيذيّة اللون: خذني
إلى بلدٍ ليس لي طائرٌ أزرقٌ
فوق صفصافة يا غريب!
وتبكي، لتقطع غاباتها في الرحيل
الطويل إلى ذاتها: من أنا ؟
من أنا بعد منفاك في جسدي ؟
آه منّي، ومنك، ومن بلدي
- من أنا بعد عينين لوزيّتين ؟
أريني غدي!...
هكذا يترك العاشقان وداعهما
فوضويًّا، كرائحة الياسمين على ليل تمّوز...
في كلّ تمّوز يحملني الياسمين إلى
شارع، لا يؤدّي إلى هدفٍ،
بيد أني أتابع أغنيّتي:
ياسمينٌ على ليل تمّوز......





 





في يدي غيمة

محمود درويش - فلسطين
 
في يدي غيمة
أسرجوا الخيل،
لا يعرفون لماذا،
ولكنّهم أسرجوا الخيل في السهل
... كان المكان معدًّا لمولده: تلّةً
من رياحين أجداده تتلفّت شرقًا وغربًا. وزيتونةً
قرب زيتونةٍ في المصاحف تعلي سطوح اللغة...
ودخانًا من اللازورد يؤثّث هذا النهار لمسألةٍ
لا تخصّ سوى الله. آذار طفل
الشهور المدلّل. آذار يندف قطنًا على شجر
اللوز. آذار يؤلم خبّيزةً لفناء الكنيسة.
آذار أرضٌ لليل السّنونو، ولامرأةٍ
تستعدّ لصرختها في البراري... وتمتدّ في
شجر السنديان.
يولد الآن طفلٌ،
وصرخته،
في شقوق المكان
افترقنا على درج البيت. كانوا يقولون:
في صرختي حذرٌ لا يلائم طيش النباتات،
في صرختي مطرٌ; هل أسأت إلى إخوتي
عندما قلت إني رأيت ملائكةً يلعبون مع الذئب
في باحة الدار؟ لا أتذكّر
أسماءهم. ولا أتذكّر أيضًا طريقتهم في
الكلام... وفي خفّة الطيران
أصدقائي يرفّون ليلاً، ولا يتركون
خلفهم أثرًا. هل أقول لأمّي الحقيقة:
لي إخوةٌ آخرون
إخوةٌ يضعون على شرفتي قمرًا
إخوةٌ ينسجون بإبرتهم معطف الآقحوان
أسرجوا الخيل،
لا يعرفون لماذا،
ولكنهم أسرجوا الخيل في آخر الليل
... سبع سنابل تكفي لمائدة الصيف.
سبع سنابل بين يديّ. وفي كل سنبلةٍ
ينبت الحقل حقلاً من القمح. كان
أبي يسحب الماء من بئره ويقول
له: لا تجفّ. ويأخذني من يدي
لأرى كيف أكبر كالفرفحينة...
أمشي على حافّة البئر: لي قمران
واحدٌ في الأعالي
وآخر في الماء يسبح... لي قمران
واثقين، كأسلافهم، من صواب
الشرائع... سكّوا حديد السيوف
محاريث. لن يصلح السيف ما
أفسد الصّيف - قالوا. وصلّوا
طويلاً. وغنّوا مدائحهم للطبيعة...
لكنهم أسرجوا الخيل،
كي يرقصوا رقصة الخيل،
في فضّة الليل...
تجرحني غيمةٌ في يدي: لا
أريد من الأرض أكثر من
هذه الأرض: رائحة الهال والقشّ
بين أبي والحصان.
في يدي غيمةٌ جرحتني. ولكنني
لا أريد من الشمس أكثر
من حبّة البرتقال وأكثر من
ذهبٍ سال من كلمات الأذان
أسرجوا الخيل،
لا يعرفون لماذا،
ولكنهم أسرجوا الخيل
في آخر الليل، وانتظروا
شبحًا طالعًا من شقوق المكان...






 




لاعب النرد
محمود درويش - فلسطين
مَنْ أَنا لأقول لكمْ
ما أَقولُ لكمْ ؟
وأَنا لم أكُنْ حجراً صَقَلَتْهُ المياهُ
فأصبح وجهاً
ولا قَصَباً ثقَبتْهُ الرياحُ
فأصبح نايًا ...
أَنا لاعب النَرْدِ ،
أَربح حيناً وأَخسر حيناً
أَنا مثلكمْ
أَو أَقلُّ قليلاً ...
وُلدتُ إلي جانب البئرِ
والشجراتِ الثلاثِ الوحيدات كالراهباتْ
وُلدتُ بلا زَفّةٍ وبلا قابلةْ
وسُمِّيتُ باسمي مُصَادَفَةً
وانتميتُ إلى عائلةْ
مصادفَةً ،
ووَرِثْتُ ملامحها والصفاتْ
وأَمراضَها :
أَولاً - خَلَلاً في شرايينها
وضغطَ دمٍ مرتفعْ
ثانياً - خجلاً في مخاطبة الأمِّ والأَبِ
والجدَّةِ - الشجرةْ
ثالثاً - أَملاً في الشفاء من الانفلونزا
بفنجان بابونج ٍ ساخن ٍ
رابعاً - كسلاً في الحديث عن الظبي والقُبَّرة
خامساً - مللاً في ليالي الشتاءْ
سادساً - فشلاً فادحاً في الغناءْ ...
ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ
كانت مصادفةً أَن أكونْ
ذَكَراً ...
ومصادفةً أَن أَرى قمراً
شاحباً مثلَ ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات
ولم أَجتهدْ
كي أَجدْ
شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً !
كان يمكن أن لا أكونْ
كان يمكن أن لا يكون أَبي
قد تزوَّج أُمي مصادفةً
أَو أكونْ
مثل أُختي التي صرخت ثم ماتت
ولم تنتبه
إلى أَنها وُلدت ساعةً واحدَة
ولم تعرفِ الوالدَة ...
أَو : كَبَيْض حَمَامٍ تكسَّرَ
قبل انبلاج فِراخ الحمام من الكِلْسِ /
كانت مصادفة أَن أكون
أنا الحيّ في حادث الباصِ
حيث تأخَّرْتُ عن رحلتي المدرسيّة ْ
لأني نسيتُ الوجود وأَحواله
عندما كنت أَقرأ في الليل قصَّةَ حُبٍّ
تَقمَّصْتُ دور المؤلف فيها
ودورَ الحبيب - الضحيَّة
فكنتُ شهيدَ الهوى في الروايةِ
والحيَّ في حادث السيرِ /
لا دورَ لي في المزاح مع البحرِ
لكنني وَلَدٌ طائشٌ
من هُواة التسكّع في جاذبيّة ماءٍ
ينادي : تعال إليّْ !
ولا دورَ لي في النجاة من البحرِ
أَنْقَذَني نورسٌ آدميٌّ
رأى الموج يصطادني ويشلُّ يديّْ
كان يمكن أَلاَّ أكون مُصاباً
بجنِّ المُعَلَّقة الجاهليّةِ
لو أَن بوَّابة الدار كانت شماليّةً
لا تطلُّ على البحرِ
لو أَن دوريّةَ الجيش لم ترَ نارَ القِرى
تخبز الليلَ
لو أَن خمسةَ عشرَ شهيداً
أَعادوا بناء المتاريسِ
لو أَن ذاك المكانَ الزراعيَّ لم ينكسرْ
رُبَّما صرتُ زيتونةً
أو مُعلّمَ جغرافيا
أو خبيراً بمملكة النمل
أو حارساً للصّدى !
مَنْ أنا لأقولَ لكم
ما أقولُ لكم
عند باب الكنيسةْ
ولستُ سوى رميةِ النرد
ما بين مُفْتَرِس ٍ وفريسةْ
ربحت مزيداً من الصحو
لا لأكون سعيداً بليلتيَ المقمرةْ
بل لكي أَشهد المجزرةْ
نجوتُ مصادفةً : كُنْتُ أَصغرَ من هَدَف عسكريّ
وأكبرَ من نحلة تتنقل بين زهور السياجْ
وخفتُ كثيراً على إخوتي وأَبي
وخفتُ على زَمَن ٍ من زجاجْ
وخفتُ على قطتي وعلى أَرنبي
وعلى قمر ساحر فوق مئذنة المسجد العاليةْ
وخفت على عِنَبِ الداليةْ
يتدلّي كأثداء كلبتنا ...
ومشى الخوفُ بي ومشيت بهِ
حافياً ، ناسياً ذكرياتي الصغيرة عمّا أُريدُ
من الغد - لا وقت للغد -
أَمشي / أهرولُ / أركضُ / أصعدُ / أنزلُ / أصرخُ / أَنبحُ / أعوي / أنادي / أولولُ / أُسرعُ / أُبطئ / أهوي / أخفُّ / أجفُّ / أسيرُ / أطيرُ / أرى / لا أرى / أتعثَّرُ / أَصفرُّ / أخضرُّ / أزرقُّ / أنشقُّ / أجهشُ / أعطشُ / أتعبُ / أسغَبُ / أسقطُ / أنهضُ / أركضُ / أنسى / أرى / لا أرى / أتذكَّرُ / أَسمعُ / أُبصرُ / أهذي / أُهَلْوِس / أهمسُ / أصرخُ / لا أستطيع / أَئنُّ / أُجنّ / أَضلّ / أقِلُّ / وأكثُرُ / أسقط / أعلو / وأهبط / أُدْمَى / ويغمى عليّْ /
ومن حسن حظّيَ أن الذئاب اختفت من هناك
مُصَادفةً ، أو هروباً من الجيش ِ /
لا دور لي في حياتي
سوى أَنني ،
عندما عَلّمتني تراتيلها ،
قلتُ : هل من مزيد ؟
وأَوقدتُ قنديلها
ثم حاولتُ تعديلها ...
كان يمكن أن لا أكون سُنُونُوَّةً
لو أرادت لِيَ الريحُ ذلك ،
والريح حظُّ المسافرِ ...
شمْألتُ ، شرَّقتُ ، غَرَّبتُ
أما الجنوب فكان قصياً عصيّاً عليّ
لأنّ الجنوب بلادي
فصرتُ مجاز سُنُونُوَّةٍ لأحلِّق فوق حطامي
ربيعاً خريفاً ..
أُعمِّدُ ريشي بغيم البحيرةِ
ثم أُطيل سلامي
على الناصريِّ الذي لا يموتُ
لأن به نَفَسَ الله
والله حظُّ النبيّ ...
ومن حسن حظّيَ أَنيَ جارُ الأُلوهةِ ...
من سوء حظّيَ أَن الصليب
هو السُلَّمُ الأزليُّ إلى غدنا !
مَنْ أَنا لأقولَ لكم
ما أقولُ لكم ،
مَنْ أنا ؟
كان يمكن أن لا يحالفني الوحيُ
والوحي حظُّ الوحيدين
إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ
على رُقْعَةٍ من ظلامْ
تشعُّ ، وقد لا تشعُّ
فيهوي الكلامْ
كريش على الرملِ /
لا دَوْرَ لي في القصيدة
غيرُ امتثالي لإيقاعها :
حركاتِ الأحاسيس حسّاً يعدِّل حساً
وحَدْساً يُنَزِّلُ معنىً
وغيبوبة في صدى الكلمات
وصورة نفسي التي انتقلت
من أَنايَ إلى غيرها
واعتمادي على نَفَسِي
وحنيني إلى النبعِ /
لا دور لي في القصيدة إلاَّ
إذا انقطع الوحيُ
والوحيُ حظُّ المهارة إذ تجتهدْ
كان يمكن ألاَّ أُحبّ الفتاة التي
سألتني : كمِ الساعةُ الآنَ ؟
لو لم أَكن في طريقي إلى السينما ...
كان يمكن ألاَّ تكون خلاسيّةً مثلما
هي ، أو خاطراً غامقاً مبهما ...
هكذا تولد الكلماتُ . أُدرِّبُ قلبي
على الحب كي يَسَعَ الورد والشوكَ ...
صوفيَّةٌ مفرداتي . وحسِّيَّةٌ رغباتي
ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلاَّ
إذا التقتِ الإثنتان ِ :
أَنا ، وأَنا الأنثويَّةُ
يا حُبّ ! ما أَنت ؟ كم أنتَ أنتَ
ولا أنتَ . يا حبّ ! هُبَّ علينا
عواصفَ رعديّةً كي نصير إلى ما تحبُّ
لنا من حلول السماويِّ في الجسديّ .
وذُبْ في مصبّ يفيض من الجانبين .
فأنت - وإن كنت تظهر أَو تَتَبطَّنُ -
لا شكل لك
ونحن نحبك حين نحبُّ مصادفةً
أَنت حظّ المساكين /
من سوء حظّيَ أَني نجوت مراراً
من الموت حبّاً
ومن حُسْن حظّي أنيَ ما زلت هشاً
لأدخل في التجربةْ !
يقول المحبُّ المجرِّبُ في سرِّه :
هو الحبُّ كذبتنا الصادقةْ
فتسمعه العاشقةْ
وتقول : هو الحبّ ، يأتي ويذهبُ
كالبرق والصاعقة
للحياة أقول : على مهلك ، انتظريني
إلى أن تجفُّ الثُمَالَةُ في قَدَحي ...
في الحديقة وردٌ مَشاع ، ولا يستطيع الهواءُ
الفكاكَ من الوردةِ /
انتظريني لئلاَّ تفرَّ العنادلُ مِنِّي
فاُخطئ في اللحنِ /
في الساحة المنشدون يَشُدُّون أوتار آلاتهمْ
لنشيد الوداع . على مَهْلِكِ اختصريني
لئلاَّ يطول النشيد ، فينقطع النبرُ بين المطالع ،
وَهْيَ ثنائيَّةٌ والختامِ الأُحاديّ :
تحيا الحياة !
على رسلك احتضنيني لئلاَّ تبعثرني الريحُ /
حتى على الريح ، لا أستطيع الفكاك
من الأبجدية /
لولا وقوفي على جَبَل ٍ
لفرحتُ بصومعة النسر : لا ضوءَ أَعلى !
ولكنَّ مجداً كهذا المُتوَّجِ بالذهب الأزرق اللانهائيِّ
صعبُ الزيارة : يبقى الوحيدُ هناك وحيداً
ولا يستطيع النزول على قدميه
فلا النسر يمشي
ولا البشريُّ يطير
فيا لكِ من قمَّة تشبه الهاوية
أنتِ يا عزلة الجبل العالية !
ليس لي أيُّ دور بما كُنْتُ
أو سأكونْ ...
هو الحظُّ . والحظ لا اسمَ لَهُ
قد نُسَمِّيه حدَّادَ أَقدارنا
أو نُسَمِّيه ساعي بريد السماء
نُسَمِّيه نجَّارَ تَخْتِ الوليد ونعشِ الفقيد
نسمّيه خادم آلهة في أساطيرَ
نحن الذين كتبنا النصوص لهم
واختبأنا وراء الأولمب ...
فصدَّقهم باعةُ الخزف الجائعون
وكَذَّبَنا سادةُ الذهب المتخمون
ومن سوء حظ المؤلف أنّ الخيال
هو الواقعيُّ على خشبات المسارح ِ /
خلف الكواليس يختلف الأَمرُ
ليس السؤال : متى ؟
بل : لماذا ؟ وكيف ؟ وَمَنْ
مَنْ أنا لأقولَ لكم
ما أقولُ لكم ؟
كان يمكن أن لا أكون
وأن تقع القافلةْ
في كمين ، وأن تنقُصَ العائلةْ
ولداً ،
هو هذا الذي يكتب الآن هذي القصيدةَ
حرفاً فحرفاً ، ونزفاً ونزفاً
على هذه الكنبةْ
بدمٍ أسود اللون ، لا هو حبر الغراب
ولا صوتُهُ ،
بل هو الليل مُعْتَصَراً كلُّه
قطرةً قطرةً ، بيد الحظِّ والموهبةْ
كان يمكن أن يربح الشعرُ أكثرَ لو
لم يكن هو ، لا غيره ، هُدْهُداً
فوق فُوَهَّة الهاويةْ
ربما قال : لو كنتُ غيري
لصرتُ أنا، مرَّةً ثانيةْ
هكذا أَتحايل : نرْسيسُ ليس جميلاً
كما ظنّ . لكنّ صُنَّاعَهُ
ورَّطوهُ بمرآته . فأطال تأمُّلَهُ
في الهواء المقَطَّر بالماء ...
لو كان في وسعه أن يرى غيره
لأحبَّ فتاةً تحملق فيه ،
وتنسى الأيائل تركض بين الزنابق والأقحوان ...
ولو كان أَذكى قليلاً
لحطَّم مرآتَهُ
ورأى كم هو الآخرون ...
ولو كان حُرّاً لما صار أُسطورةً ...
والسرابُ كتابُ المسافر في البِيد ...
لولاه ، لولا السراب ، لما واصل السيرَ
بحثاً عن الماء . هذا سحاب - يقول
ويحمل إبريق آماله بِيَدٍ وبأخرى
يشدُّ على خصره . ويدقُّ خطاه على الرمل ِ
كي يجمع الغيم في حُفْرةٍ . والسراب يناديه
يُغْويه ، يخدعه ، ثم يرفعه فوق : إقرأ
إذا ما استطعتَ القراءةَ . واكتبْ إذا
ما استطعت الكتابة . يقرأ : ماء ، وماء ، وماء .
ويكتب سطراً على الرمل : لولا السراب
لما كنت حيّاً إلى الآن /
من حسن حظِّ المسافر أن الأملْ
توأمُ اليأس ، أو شعرُهُ المرتجَل
حين تبدو السماءُ رماديّةً
وأَرى وردة نَتَأَتْ فجأةً
من شقوق جدارْ
لا أقول : السماء رماديّةٌ
بل أطيل التفرُّس في وردةٍ
وأَقول لها : يا له من نهارْ !
ولاثنين من أصدقائي أقول على مدخل الليل :
إن كان لا بُدَّ من حُلُم ، فليكُنْ
مثلنا ... وبسيطاً
كأنْ : نَتَعَشَّى معاً بعد يَوْمَيْنِ
نحن الثلاثة ،
مُحْتَفلين بصدق النبوءة في حُلْمنا
وبأنَّ الثلاثة لم ينقصوا واحداً
منذ يومين ،
فلنحتفل بسوناتا القمرْ
وتسامُحِ موتٍ رآنا معاً سعداء
فغضَّ النظرْ !
لا أَقول : الحياة بعيداً هناك حقيقيَّةٌ
وخياليَّةُ الأمكنةْ
بل أقول : الحياة ، هنا ، ممكنةْ
ومصادفةً ، صارت الأرض أرضاً مُقَدَّسَةً
لا لأنَّ بحيراتها ورباها وأشجارها
نسخةٌ عن فراديس علويَّةٍ
بل لأن نبيّاً تمشَّى هناك
وصلَّى على صخرة فبكتْ
وهوى التلُّ من خشية الله
مُغْمىً عليه
ومصادفةً ، صار منحدر الحقل في بَلَدٍ
متحفاً للهباء ...
لأن ألوفاً من الجند ماتت هناك
من الجانبين ، دفاعاً عن القائِدَيْنِ اللذين
يقولان : هيّا . وينتظران الغنائمَ في
خيمتين حريريّتَين من الجهتين ...
يموت الجنود مراراً ولا يعلمون
إلى الآن مَنْ كان منتصراً !
ومصادفةً ، عاش بعض الرواة وقالوا :
لو انتصر الآخرون على الآخرين
لكانت لتاريخنا البشريّ عناوينُ أُخرى
أُحبك خضراءَ . يا أرضُ خضراءَ . تُفَّاحَةً
تتموَّج في الضوء والماء . خضراء . ليلُكِ
أَخضر . فجرك أَخضر . فلتزرعيني برفق...
برفق ِ يَدِ الأم ، في حفنة من هواء .
أَنا بذرة من بذورك خضراء ... /
تلك القصيدة ليس لها شاعر واحدٌ
كان يمكن ألا تكون غنائيَّةَ ...
من أنا لأقولَ لكم
ما أَقولُ لكم ؟
كان يمكن أَلاَّ أكون أَنا مَنْ أَنا
كان يمكن أَلاَّ أكون هنا ...
كان يمكن أَن تسقط الطائرةْ
بي صباحاً ،
ومن حسن حظّيَ أَني نَؤُومُ الضحى
فتأخَّرْتُ عن موعد الطائرةْ
كان يمكن أَلاَّ أرى الشام والقاهرةْ
ولا متحف اللوفر ، والمدنَ الساحرةْ
كان يمكن ، لو كنت أَبطأَ في المشي ،
أَن تقطع البندقيّةُ ظلِّي
عن الأرزة الساهرةْ
كان يمكن ، لو كنتُ أَسرع في المشي ،
أَن أَتشظّي
وأصبح خاطرةً عابرةْ
كان يمكن ، لو كُنْتُ أَسرف في الحلم ،
أَن أَفقد الذاكرة .
ومن حسن حظِّيَ أَني أنام وحيداً
فأصغي إلى جسدي
وأُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ
فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق
عشرُ دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً
وأُخيِّبَ ظنّ العدمْ
مَنْ أَنا لأخيِّبَ ظنَّ العدمْ ؟
مَنْ أنا ؟ مَنْ أنا ؟
 
 




خطب الديكتاتور الموزونة
محمود درويش - فلسطين
 
خطـاب الجلوس :
سأختار شعبي
سأختاركم واحدا واحدا
سأختاركم من سلالة أمي ومن مذهبي
سأختاركم لكي تكونوا جديرين بي
سأختار شعبى سياجا لمملكتي ورصيفُا
لكل فتى امرأة
فأحبوا النساء ، ولا تضربوهن إن مسهن الحرام
ومن يستحق المرور أمام حدائق قصري . .
سأختار أصلحكم للبقاء . .
لما فات من دول مزقتها الزوابع !
يا شعب .. يا شعبى " الحر فاحرس هوائي
وسرب الذباب وغيم الغبار.
فتبا لهذا الفساد وتبا لبؤس العباد الثكالى
وتبًا لوحل الشوارع ..
فمن كان منكم بلا علة .. فهو حارس كلبى،
ومن كان منكم طبيبا ..أعينه
سائسا لحصاني الجديد.
ومن كان منكم أديبا .. أعينه حاملا لاتجاه
النشيد و من كان منكم حكيمًا ..أعينه مستشارا
لصك النقود .
ومن كان منكم وسيمًا ..أعينه حاجبا
ومن كان منكم قويًا ..أعينه نائبا للمدائح
ومن كان منكم بلا ذهب أو مواهب
ومن كان منكم بلا ضجرٍ ولآلىء
فلا وقت عندى للقمح والكدح
ولأعترف
أمامك يا أيها الشعب .. يا شعبى
المنتقى بيدى
كرهت جميع الطغـاة ..
لأن الطغـاة يسوسون شعبا من الجهلة
ومن أجل أن ينهض العدل فوق الذكاء
المعاصر
لابد من برلمان جديد ومن أسئلة
مواطن ؟
ترى هل يليق بمن هو مثلى قيادة لص
وأعمى وجاهل ؟.
وهل تقبلون لسيدكم أن يساوى ما بينكم
أيها النبلاء
وهل يتساوى هنا الفيلسوف مع المتسول ؟
هل يذهبان إلى الاقتراع معا ،.
كى يقود العوام سياسة هذا الوطن ؟
وهل أغلبيتكم أيها الشعب ،هم عدد لا لزوم
إن أردتم نظاما جديدا لمنع المفتن !!
إذن
سأختار أفراد شعبي، سأختاركم واحدا
واحدا .
كى تكونوا جديرين بى.. وأكون جديرًا بكم ..
وأن ترفعوا صورى فوق جدرانكم
وأن تشكروني لأنى رضيت بكم أمة لى..
سمأمنحكم حق أن تتملوا ملامح وجهي في
كل عام جديد ..
سأمنحكم كل حق تريدون حق البكاء على
موت قط شريد
تريدون ..
على أى جنب تريدون .. ناموا ،
لكم حق أن تحلموا برضاى وعطفى .. فلا
سأمنحكم حقكم فى الهواء.. وحقكم فى
الضياء
سأبنى لكم جنة فوق أرضى
ولا تسمعوا ما يقول ملوك الطوائف عنى،
وانى أحذركم من عذاب الحسد!
ولا تدخلوا فى السياسـة .إلا إذا صدر الأمر
عني . .
لأن السياسة سجني..
هنا الحكم شورى ..هنا الحكم شورى
أنا حاكم منتخب ،
وأنتم جماهير منتخبة
ومن واجب الشعب أن يلحس العتبة
وأن يتحرى الحقيقة ممن دعاه إليه . .
اصطفاه .حماه من الأغلبية .والأغلبية
نهب
ومن واجب الشعب أن يرفع الأمر
للحاكم المنتخب ،
أن أعارض
فالأمر أمرى والعدل عدلي و الحق ملك يدى،
واما إحالته للسراى
وحق الرضا ، لى أنا الحاكم المنتخب !
وحق الهوى والطرب
لكم كلكم .فأنتم جماهير منتخبة !
أنا .الحاكم الحر والعادل .
سننشئ منذ انتخابى دولتنا الفاضلة
ولا سجن بعد انتخابى ولاشعر عن تعب
القافلة
سألغي نظام العقوبات من دولتي
من أراد التأفف خارج شعبى فليتأفف
من شاء أن يتمرد خارج شعبى فليتمرد ..
..فالشعب حر..
ومن ليس منى ومن دولتى فهو حر..
سأختاركو واحدا واحدا مرة كل خمس
سنين .. .
وأنتم تزكوننى مرة كل عشرين
عامًا إذا لزم الأمر
أو مرة للابد
وان لم تريدوا بقائى ، لاسمح الله
إن شئتم أن يزول البلد
أعدت إلى الشعب ماهب أو دب من سابق
الشعب
كى أملك الأكثرية .والأكثرية فوضى..
أترضى أخى الشعب !
ترضى بهذا المصير الحقير أترضى؟.
معاذك !!
فد اخترت شعبى واختارنى الآن شعبى..
فطوبى لكم .. ثم طوبى لنا أجمعين .
فمن سنة لم أجد خبرا واحدًا عن بلادى
أما من خبر؟
نغير تقويمنا السنوى . . وننقش أقوالنا فى
وندفنها فى الصحاري ليطلع منها المطر
على ما أشاء من الكائنات
وأحمل عاصمتى فوق سيارة الجيب ،
وأكتب فى العام عشرين سطرا بلا خطأ
نحوى،
ألغى الخبر .وما من خبر؟. .
وامنع عنكم عصير الشعير
وأختصر الناس .. أسجن ثلثًا ..
وأطرد كثا ..
وأبقى من الثلث حاشية للسمر..
وما بقى من خبر؟!
وأطبع وجهى .. من أجلكم .فوق وجه القمر
لكي تحلموا كما أتمنى لكم .. تصبحون على
وما من خبر؟!
لأن الشعير طعام حميرٍ .. وأنتم أرانب
قلبى..
كلوا ما تشاؤون من بصل أخضر أو جزر..
وما من خبر؟
وأدعو إلى وحدة المسلمين على سيف قيصر
بتاريخ فكر البشر
وأغلق كل المسارح .. لا مسرح فى البلد
وما بن تبرأ
ضجر!
ضجر!
ولكن قلبي عليك وقلبك من فلز أو حجر
أضحى لأجلك ، يا شعب ، إني سجينك منذ
الصغر
ومنذ صباي المبكر أخطب فيكم
وأحكمكم واحدا واحدا
وفى كل يوم أعد لكم مؤتمر
دو أن يتخشب ؟ من منكم يستطيع
السهر..
ثلاثين عاما
ليمنع شعبا من المذكريات وحب السفر..؟
وحيد أنا أيها الشعب ..لا أستطيع الذهاب
إلى البحر
والمشي فوق الرصيف
ولا النوم تحت الشجر
ثقيل هو الحكم ..لا تحسدوا حاكما ..
أي صدر تحمل ما يتحمل صدري من
الأوسمة ؟.
ثلاثين عاما على حافة الجمجمة
وأي يد دفعت طما دفعت يدنا من خطر؟.
ضجـر !
قليلا ، فمن يعيد إلى ساحة الموت
أمجادها؟.
اخطئوا .. اخطئوا .. واسرقوا وافسقوا ..
لأقطع كفا وأجدع أنفا وأدخل سيفا بنهد
وأجعل هذا الهوا ،إبر
وأنسى همومي في الحكم ، أنسى التشابه
أما من أحد؟ ..
تقاعس عن خدمتي أو بكى أو جحد:
أما من أحد .. شكا أو كفر !
ضجر!
ووحدي أسن القوانين
وحدي أحول مجرى النـهر . .
أفكر وحدي أقرر وحدي.. فما من وزارة
تساعدني في إدارة أسراركم
ليسر لي نائب لشئون الكناية والاست


 


أيها المارون بين الكلمات العابرة
محمود درويش - فلسطين

أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، و انصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر و رمل الذاكرة
و خذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
انكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء
 
أيها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف - ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار- ومنا لحمنا
منكم دبابة أخرى- ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز - ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
وادخلوا حفل عشاء راقص .. و انصرفوا
وعلينا ، نحن ، أن نحرس ورد الشهداء
و علينا ، نحن، أن نحيا كما نحن نشاء

أيها المارون بين الكلمات العابرة
كالغبار المر مروا أينما شئتم ولكن
لا تمروا بيننا كالحشرات الطائرة
خلنا في أرضنا ما نعمل
و لنا قمح نربيه و نسقيه ندى أجسادنا
و لنا ما ليس يرضيكم هنا
حجر.. أو خجل
فخذوا الماضي ، إذا شئتم إلى سوق التحف
و أعيدوا الهيكل العظمي للهدهد ، إن شئتم
على صحن خزف
لنا ما ليس يرضيكم ، لنا المستقبل ولنا في أرضنا ما نعمل

أيها المارون بين الكلمات العابرة
كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة ، وانصرفوا
وأعيدوا عقرب الوقت إلى شرعية العجل المقدس
أو إلى توقيت موسيقى مسدس
فلنا ما ليس يرضيكم هنا ، فانصرفوا
ولنا ما ليس فيكم : وطن ينزف شعبا
وطن يصلح للنسيان أو للذاكرة
أيها المارون بين الكلمات العابرة
آن أن تنصرفوا
وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا
آن أن تنصرفوا
ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا
فنا في أرضنا ما نعمل
ولنا الماضي هنا
ولنا صوت الحياة الأول
ولنا الحاضر ، والحاضر ، والمستقبل
ولنا الدنيا هنا .. والآخرة ْ
فاخرجوا من أرضنا
من برنا .. من بحرنا
من قمحنا .. من ملحنا .. من جرحنا
من كل شيء ، واخرجوا من ذكريات الذاكرة ْ
أيها المارون بين الكلمات العابرة ْ!



 



حــــالة حصـــار
محمود درويش - فلسطين

هنا، عند مُنْحَدَرات التلال، أمام الغروب وفُوَّهَة الوقت
قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِ،
نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ،
وما يفعل العاطلون عن العمل:
نُرَبِّي الأملْ!

بلادٌ علي أُهْبَةِ الفجر. صرنا أَقلَّ ذكاءً
لأَنَّا نُحَمْلِقُ في ساعة النصر:
لا لَيْلَ في ليلنا المتلألئ بالمدفعيَّة
أَعداؤنا يسهرون وأَعداؤنا يُشْعِلون لنا النورَ
في حلكة الأَقبية

هنا، بعد أَشعار أَيّوبَ لم ننتظر أَحداً

سيمتدُّ هذا الحصارُ إلي أن نعلِّم أَعداءنا
نماذجَ من شِعْرنا الجاهليّ

السَّماءُ رصاصيّةٌ في الضُحى
بُرْتقاليَّةٌ في الليالي. وأَمَّا القلوبُ
فظلَّتْ حياديَّةً مثلَ ورد السياجْ

هنا، لا أَنا
هنا، يتذكَّرُ آدَمُ صَلْصَالَهُ...

يقولُ على حافَّة الموت:
لم يَبْقَ بي مَوْطِئٌ للخسارةِ:
حُرٌّ أَنا قرب حريتي. وغدي في يدي.
سوف أَدخُلُ عمَّا قليلٍ حياتي،
وأولَدُ حُرّاً بلا أَبَوَيْن،
وأختارُ لاسمي حروفاً من اللازوردْ...

في الحصار، تكونُ الحياةُ هِيَ الوقتُ
بين تذكُّرِ أَوَّلها.
ونسيانِ آخرِها.

هنا، عند مُرْتَفَعات الدُخان، على دَرَج البيت،
لا وَقْتَ للوقت.
نفعلُ ما يفعلُ الصاعدون إلى الله:
ننسي الأَلمْ.

الألمْ
هُوَ: أن لا تعلِّق سيِّدةُ البيت حَبْلَ الغسيل
صباحاً، وأنْ تكتفي بنظافة هذا العَلَمْ.

لا صدىً هوميريٌّ لشيءٍ هنا.
فالأساطيرُ تطرق أبوابنا حين نحتاجها.
لا صدىً هوميريّ لشيء. هنا جنرالٌ
يُنَقِّبُ عن دَوْلَةٍ نائمةْ
تحت أَنقاض طُرْوَادَةَ القادمةْ

يقيسُ الجنودُ المسافةَ بين الوجود وبين العَدَمْ
بمنظار دبّابةٍ...

نقيسُ المسافَةَ ما بين أَجسادنا والقذائفِ بالحاسّة السادسةْ.

أَيُّها الواقفون على العَتَبات ادخُلُوا،
واشربوا معنا القهوةَ العربيَّةَ
فقد تشعرون بأنكمُ بَشَرٌ مثلنا.
أَيها الواقفون على عتبات البيوت!
اُخرجوا من صباحاتنا،
نطمئنَّ إلى أَننا
بَشَرٌ مثلكُمْ!

نَجِدُ الوقتَ للتسليةْ:
نلعبُ النردَ، أَو نَتَصَفّح أَخبارَنا
في جرائدِ أَمسِ الجريحِ،
ونقرأ زاويةَ الحظِّ: في عامِ
أَلفينِ واثنينِ تبتسم الكاميرا
لمواليد بُرْجِ الحصار.

كُلَّما جاءني الأمسُ، قلت له:
ليس موعدُنا اليومَ، فلتبتعدْ
وتعالَ غداً !

أُفكِّر، من دون جدوى:
بماذا يُفَكِّر مَنْ هُوَ مثلي، هُنَاكَ
على قمَّة التلّ، منذ ثلاثةِ آلافِ عامٍ،
وفي هذه اللحظة العابرةْ؟
فتوجعنُي الخاطرةْ
وتنتعشُ الذاكرةْ

عندما تختفي الطائراتُ تطيرُ الحماماتُ،
بيضاءَ بيضاءَ، تغسِلُ خَدَّ السماء
بأجنحةٍ حُرَّةٍ، تستعيدُ البهاءَ وملكيَّةَ
الجوِّ واللَهْو. أَعلى وأَعلى تطيرُ
الحماماتُ، بيضاءَ بيضاءَ. ليت السماءَ
حقيقيّةٌ قال لي رَجَلٌ عابرٌ بين قنبلتين

الوميضُ، البصيرةُ، والبرقُ
قَيْدَ التَشَابُهِ...
عمَّا قليلٍ سأعرفُ إن كان هذا
هو الوحيُ...
أو يعرف الأصدقاءُ الحميمون أنَّ القصيدةَ
مَرَّتْ، وأَوْدَتْ بشاعرها


إلي ناقدٍ: لا تُفسِّر كلامي
بملعَقةِ الشايِ أَو بفخِاخ الطيور!
يحاصرني في المنام كلامي
كلامي الذي لم أَقُلْهُ،
ويكتبني ثم يتركني باحثاً عن بقايا منامي

شَجَرُ السرو، خلف الجنود، مآذنُ تحمي
السماءَ من الانحدار. وخلف سياج الحديد
جنودٌ يبولون ـ تحت حراسة دبَّابة ـ
والنهارُ الخريفيُّ يُكْملُ نُزْهَتَهُ الذهبيَّةَ في
شارعٍ واسعٍ كالكنيسة بعد صلاة الأَحد...

نحبُّ الحياةَ غداً
عندما يَصِلُ الغَدُ سوف نحبُّ الحياة
كما هي، عاديّةً ماكرةْ
رماديّة أَو مُلوَّنةً.. لا قيامةَ فيها ولا آخِرَةْ
وإن كان لا بُدَّ من فَرَحٍ
فليكن
خفيفاً على القلب والخاصرةْ
فلا يُلْدَغُ المُؤْمنُ المتمرِّنُ
من فَرَحٍ ... مَرَّتَينْ!

قال لي كاتبٌ ساخرٌ:
لو عرفتُ النهاية، منذ البدايةَ،
لم يَبْقَ لي عَمَلٌ في اللٌّغَةْ

إلي قاتلٍ: لو تأمَّلْتَ وَجْهَ الضحيّةْ
وفكَّرتَ، كُنْتَ تذكَّرْتَ أُمَّك في غُرْفَةِ
الغازِ، كُنْتَ تحرَّرتَ من حكمة البندقيَّةْ
وغيَّرتَ رأيك: ما هكذا تُسْتَعادُ الهُويَّةْ

إلى قاتلٍ آخر: لو تَرَكْتَ الجنينَ ثلاثين يوماً،
إِذَاً لتغيَّرتِ الاحتمالاتُ:
قد ينتهي الاحتلالُ ولا يتذكَّرُ ذاك الرضيعُ زمانَ الحصار،
فيكبر طفلاً معافي،
ويدرُسُ في معهدٍ واحد مع إحدى بناتكَ
تارِيخَ آسيا القديمَ.
وقد يقعان معاً في شِباك الغرام.
وقد يُنْجبان اُبنةً (وتكونُ يهوديَّةً بالولادةِ).
ماذا فَعَلْتَ إذاً ؟
صارت ابنتُكَ الآن أَرملةً،
والحفيدةُ صارت يتيمةْ ؟
فماذا فَعَلْتَ بأُسرتكَ الشاردةْ
وكيف أَصَبْتَ ثلاثَ حمائمَ بالطلقة الواحدةْ ؟

لم تكن هذه القافيةْ
ضَرُوريَّةً، لا لضْبطِ النَغَمْ
ولا لاقتصاد الأَلمْ
إنها زائدةْ
كذبابٍ على المائدةْ

الضبابُ ظلامٌ، ظلامٌ كثيفُ البياض
تقشِّرُهُ البرتقالةُ والمرأةُ الواعدة.

الحصارُ هُوَ الانتظار
هُوَ الانتظارُ على سُلَّمٍ مائلٍ وَسَطَ العاصفةْ

وَحيدونَ، نحن وحيدون حتى الثُمالةِ
لولا زياراتُ قَوْسِ قُزَحْ

لنا اخوةٌ خلف هذا المدى.
اخوةٌ طيّبون. يُحبُّوننا. ينظرون إلينا ويبكون.
ثم يقولون في سرِّهم:
ليت هذا الحصارَ هنا علنيٌّ.. ولا يكملون العبارةَ:
لا تتركونا وحيدين، لا تتركونا.

خسائرُنا: من شهيدين حتى ثمانيةٍ كُلَّ يومٍ.
وعَشْرَةُ جرحى.
وعشرون بيتاً.
وخمسون زيتونةً...
بالإضافة للخَلَل البُنْيويّ الذي
سيصيب القصيدةَ والمسرحيَّةَ واللوحة الناقصةْ

في الطريق المُضَاء بقنديل منفي
أَرى خيمةً في مهبِّ الجهاتْ:
الجنوبُ عَصِيٌّ على الريح،
والشرقُ غَرْبٌ تَصوَّفَ،
والغربُ هُدْنَةُ قتلي يَسُكُّون نَقْدَ السلام،
وأَمَّا الشمال، الشمال البعيد
فليس بجغرافيا أَو جِهَةْ
إنه مَجْمَعُ الآلهةْ

قالت امرأة للسحابة: غطِّي حبيبي
فإنَّ ثيابي مُبَلَّلةٌ بدَمِهْ

إذا لم تَكُنْ مَطَراً يا حبيبي
فكُنْ شجراً
مُشْبَعاً بالخُصُوبةِ، كُنْ شَجَرا
وإنْ لم تَكُنْ شجراً يا حبيبي
فكُنْ حجراً
مُشْبعاً بالرُطُوبةِ، كُنْ حَجَرا
وإن لم تَكُنْ حجراً يا حبيبي
فكن قمراً
في منام الحبيبة، كُنْ قَمرا
هكذا قالت امرأةٌ
لابنها في جنازته

أيَّها الساهرون ! أَلم تتعبوا
من مُرَاقبةِ الضوءِ في ملحنا
ومن وَهَج الوَرْدِ في جُرْحنا
أَلم تتعبوا أَيُّها الساهرون ؟

واقفون هنا. قاعدون هنا. دائمون هنا. خالدون هنا.
ولنا هدف واحدٌ واحدٌ واحدٌ: أن نكون.
ومن بعده نحن مُخْتَلِفُونَ على كُلِّ شيء:
علي صُورة العَلَم الوطنيّ (ستُحْسِنُ صُنْعاً لو اخترتَ يا شعبيَ الحيَّ رَمْزَ الحمار البسيط).
ومختلفون علي كلمات النشيد الجديد
(ستُحْسِنُ صُنْعاً لو اخترتَ أُغنيَّةً عن زواج الحمام).
ومختلفون علي واجبات النساء
(ستُحْسِنُ صُنْعاً لو اخْتَرْتَ سيّدةً لرئاسة أَجهزة الأمنِ).
مختلفون على النسبة المئوية، والعامّ والخاص،
مختلفون على كل شيء. لنا هدف واحد: أَن نكون ...
ومن بعده يجدُ الفَرْدُ مُتّسعاً لاختيار الهدفْ.

قال لي في الطريق إلى سجنه:
عندما أَتحرّرُ أَعرفُ أنَّ مديحَ الوطنْ
كهجاء الوطنْ
مِهْنَةٌ مثل باقي المِهَنْ !

قَليلٌ من المُطْلَق الأزرقِ اللا نهائيِّ
يكفي
لتخفيف وَطْأَة هذا الزمانْ
وتنظيف حَمأةِ هذا المكان

على الروح أَن تترجَّلْ
وتمشي على قَدَمَيْها الحريريّتينِ
إلى جانبي، ويداً بيد، هكذا صاحِبَيْن
قديمين يقتسمانِ الرغيفَ القديم
وكأسَ النبيذِ القديم
لنقطع هذا الطريق معاً
ثم تذهب أَيَّامُنا في اتجاهَيْنِ مُخْتَلِفَينْ:
أَنا ما وراءَ الطبيعةِ. أَمَّا هِيَ
فتختار أَن تجلس القرفصاء على صخرة عاليةْ

إلى شاعرٍ: كُلَّما غابَ عنك الغيابْ
تورَّطتَ في عُزْلَة الآلهةْ
فكن ذاتَ موضوعك التائهةْ
و موضوع ذاتكَ. كُنْ حاضراً في الغيابْ

:يَجِدُ الوقتَ للسُخْرِيَةْ
هاتفي لا يرنُّ
ولا جَرَسُ الباب أيضاً يرنُّ
فكيف تيقَّنتِ من أَنني
!لم أكن ههنا

:يَجدُ الوَقْتَ للأغْنيَةْ
في انتظارِكِ، لا أستطيعُ انتظارَكِ
لا أَستطيعُ قراءةَ دوستويفسكي
ولا الاستماعَ إلى أُمِّ كلثوم أَو ماريّا كالاس وغيرهما
في انتظارك تمشي العقاربُ في ساعةِ اليد نحو اليسار...
إلي زَمَنٍ لا مكانَ لَهُ
في انتظارك لم أنتظرك، انتظرتُ الأزَلْ

يَقُولُ لها: أَيّ زهرٍ تُحبِّينَهُ
فتقولُ: القُرُنْفُلُ .. أَسودْ
يقول: إلى أَين تمضين بي، والقرنفل أَسودْ ؟
تقول: إلى بُؤرة الضوءِ في داخلي
وتقولُ: وأَبْعَدَ ... أَبْعدَ ... أَبْعَدْ

سيمتدُّ هذا الحصار إلى أَن يُحِسَّ المحاصِرُ، مثل المُحَاصَر،
أَن الضَجَرْ
صِفَةٌ من صفات البشرْ

لا أُحبُّكَ، لا أكرهُكْ ـ
قال مُعْتَقَلٌ للمحقّق: قلبي مليء
بما ليس يَعْنيك. قلبي يفيض برائحة المَرْيَميّةِ
قلبي بريء مضيء مليء،
ولا وقت في القلب للامتحان. بلى،
لا أُحبُّكَ. مَنْ أَنت حتَّى أُحبَّك؟
هل أَنت بعضُ أَنايَ، وموعدُ شاي،
وبُحَّة ناي، وأُغنيّةٌ كي أُحبَّك؟
لكنني أكرهُ الاعتقالَ ولا أَكرهُكْ
هكذا قال مُعْتَقَلٌ للمحقّقِ: عاطفتي لا تَخُصُّكَ.
عاطفتي هي ليلي الخُصُوصيُّ...
ليلي الذي يتحرَّكُ بين الوسائد حُرّاً من الوزن والقافيةْ

جَلَسْنَا بعيدينَ عن مصائرنا كطيورٍ
تؤثِّثُ أَعشاشها في ثُقُوب التماثيل
أَو في المداخن، أو في الخيام التي
نُصِبَتْ في طريق الأمير إلي رحلة الصَيّدْ...

على طَلَلي ينبتُ الظلُّ أَخضرَ
والذئبُ يغفو علي شَعْر شاتي
ويحلُمُ مثلي، ومثلَ الملاكْ
بأنَّ الحياةَ هنا ... لا هناكْ

الأساطير ترفُضُ تَعْديلَ حَبْكَتها
رُبَّما مَسَّها خَلَلٌ طارئٌ
ربما جَنَحَتْ سُفُنٌ نحو يابسةٍ
غيرِ مأهولةٍ،
فأصيبَ الخياليُّ بالواقعيِّ،
ولكنها لا تغيِّرُ حبكتها.
كُلَّما وَجَدَتْ واقعاً لا يُلائمها
عدَّلَتْهُ بجرَّافة.
فالحقيقةُ جاريةُ النصِّ، حَسْناءُ
بيضاءُ من غير سوء ...

إلي شبه مستشرق: ليكُنْ ما تَظُنُّ
لنَفْتَرِضِ الآن أَني غبيٌّ، غبيٌّ، غبيٌّ
ولا أَلعبُ الجولف
لا أَفهمُ التكنولوجيا،
ولا أَستطيعُ قيادةَ طيّارةٍ!
أَلهذا أَخَذْتَ حياتي لتصنَعَ منها حياتَكَ؟
لو كُنْتَ غيرَكَ، لو كنتُ غيري،
لكُنَّا صديقين يعترفان بحاجتنا للغباء.
أَما للغبيّ، كما لليهوديّ في تاجر البُنْدُقيَّة
قلبٌ، وخبزٌ، وعينان تغرورقان؟

في الحصار، يصير الزمانُ مكاناً
تحجَّرَ في أَبَدِهْ
في الحصار، يصير المكانُ زماناً
تخلَّف عن أَمسه وَغدِهْ

هذه الأرضُ واطئةٌ، عاليةْ
أَو مُقَدَّسَةٌ، زانيةْ
لا نُبالي كثيراً بسحر الصفات
فقد يُصْبِحُ الفرجُ، فَرْجُ السماواتِ،
جغْرافيةْ !

الشهيدُ يُحاصرُني كُلَّما عِشْتُ يوماً جديداً
ويسألني: أَين كُنْت ؟ أَعِدْ للقواميس كُلَّ الكلام الذي كُنْتَ أَهْدَيْتَنِيه،
وخفِّفْ عن النائمين طنين الصدى

الشهيدُ يُعَلِّمني: لا جماليَّ خارجَ حريتي.

الشهيدُ يُوَضِّحُ لي: لم أفتِّشْ وراء المدى
عن عذارى الخلود، فإني أُحبُّ الحياةَ
علي الأرض، بين الصُنَوْبرِ والتين،
لكنني ما استطعتُ إليها سبيلاً، ففتَّشْتُ
عنها بآخر ما أملكُ: الدمِ في جَسَدِ اللازوردْ.

الشهيدُ يُحاصِرُني: لا تَسِرْ في الجنازة
إلاّ إذا كُنْتَ تعرفني. لا أُريد مجاملةً
من أَحَدْ.

الشهيد يُحَذِّرُني: لا تُصَدِّقْ زغاريدهُنَّ.
وصدّق أَبي حين ينظر في صورتي باكياً:
كيف بدَّلْتَ أدوارنا يا بُنيّ، وسِرْتَ أَمامي.
أنا أوّلاً، وأنا أوّلاً !

الشهيدُ يُحَاصرني: لم أُغيِّرْ سوى موقعي وأَثاثي الفقيرِ.
وَضَعْتُ غزالاً على مخدعي،
وهلالاً على إصبعي،
كي أُخفِّف من وَجَعي !

سيمتدُّ هذا الحصار ليقنعنا باختيار عبوديّة لا تضرّ، ولكن بحريَّة كاملة!!.

أَن تُقَاوِم يعني: التأكُّدَ من صحّة
القلب والخُصْيَتَيْن، ومن دائكَ المتأصِّلِ:
داءِ الأملْ.

وفي ما تبقَّى من الفجر أَمشي إلى خارجي
وفي ما تبقّى من الليل أسمع وقع الخطي داخلي.

سلامٌ على مَنْ يُشَاطرُني الانتباهَ إلي
نشوة الضوءِ، ضوءِ الفراشةِ، في
ليل هذا النَفَقْ.

سلامٌ على مَنْ يُقَاسمُني قَدَحي
في كثافة ليلٍ يفيض من المقعدين:
سلامٌ على شَبَحي.

إلي قارئ: لا تَثِقْ بالقصيدةِ ـ
بنتِ الغياب. فلا هي حَدْسٌ، ولا
هي فِكْرٌ، ولكنَّها حاسَّةُ الهاويةْ.

إذا مرض الحبُّ عالجتُهُ
بالرياضة والسُخْريةْ
وَبفصْلِ المُغنِّي عن الأغنيةْ

أَصدقائي يُعدُّون لي دائماً حفلةً
للوداع، وقبراً مريحاً يُظَلِّلهُ السنديانُ
وشاهدةً من رخام الزمن
فأسبقهم دائماً في الجنازة:
مَنْ مات.. مَنْ ؟

الحصارُ يُحَوِّلني من مُغَنٍّ الى . . . وَتَرٍ سادس في الكمانْ!

الشهيدةُ بنتُ الشهيدةِ بنتُ الشهيد وأختُ الشهيدِ
وأختُ الشهيدةِ كنَّةُ أمِّ الشهيدِ حفيدةُ جدٍّ شهيد
وجارةُ عمِّ الشهيد الخ ... الخ ..
ولا نبأ يزعج العالَمَ المتمدِّن،
فالزَمَنُ البربريُّ انتهى.
والضحيَّةُ مجهولَةُ الاسم، عاديّةٌ،
والضحيَّةُ ـ مثل الحقيقة ـ نسبيَّةٌ الخ ... الخ ف

هدوءاً، هدوءاً، فإن الجنود يريدون
في هذه الساعة الاستماع إلي الأغنيات
التي استمع الشهداءُ إليها، وظلَّت كرائحة
البُنّ في دمهم، طازجة.

هدنة، هدنة لاختبار التعاليم: هل تصلُحُ الطائراتُ محاريثَ ؟
قلنا لهم: هدنة، هدنة لامتحان النوايا،
فقد يتسرَّبُ شيءٌ من السِلْم للنفس.
عندئذٍ نتباري على حُبِّ أشيائنا بوسائلَ شعريّةٍ.
فأجابوا: ألا تعلمون بأن السلام مع النَفْس
يفتح أبوابَ قلعتنا لِمقَامِ الحجاز أو النَهَوَنْد ؟
فقلنا: وماذا ؟ ... وَبعْد ؟

الكتابةُ جَرْوٌ صغيرٌ يَعَضُّ العَدَمْ
الكتابةُ تجرَحُ من دون دَمْ..

فناجينُ قهوتنا. والعصافيرُ والشَجَرُ الأخضرُ
الأزرقُ الظلِّ. والشمسُ تقفز من حائط
نحو آخرَ مثل الغزالة.
والماءُ في السُحُب اللانهائية الشكل في ما تبقَّي لنا
من سماء. وأشياءُ أخرى مؤجَّلَةُ الذكريات
تدلُّ على أن هذا الصباح قويّ بهيّ،
وأَنَّا ضيوف على الأبديّةْ.

رام الله ـ يناير 2002




 



إلـى أمّــي

محمود درويش - فلسطين

أحنُّ إلى خبزِ أمّي
وقهوةِ أمّي

ولمسةِ أمّي

وتكبرُ فيَّ الطفولةُ

يوماً على صدرِ يومِ

وأعشقُ عمري لأنّي

إذا متُّ

أخجلُ من دمعِ أمّي




خذيني، إذا عدتُ يوماً


وشاحاً لهُدبكْ


وغطّي عظامي بعشبِ


تعمّد من طُهرِ كعبكْ


وشدّي وثاقي..


بخصلةِ شَعر..


بخيطٍ يلوّحُ في ذيلِ ثوبكْ


  • عساني أصيرُ إلهاً

إلهاً أصير..

إذا ما لمستُ قرارةَ قلبكْ!


ضعيني، إذا ما رجعتُ

وقوداً بتنّورِ ناركْ

وحبلِ الغسيلِ على سطحِ دارِكْ

لأني فقدتُ الوقوفَ

بدونِ صلاةِ نهارِكْ

هرِمتُ، فرُدّي نجومَ الطفولة

حتّى أُشارِكْ

صغارَ العصافيرِ

دربَ الرجوع..

لعشِّ انتظاركْ..


 









 




فراغ فسيح
محمود درويش - فلسطين

فراغ فسيح. نحاس. عصافير حنطيَّة
اللون. صفصافَة. كَسَل. أفق مهْمَل
كالحكايا الكبيرة. أَرض مجعَّدة الوجه.
صَيْف كثير التثاؤب كالكلب في ظلِّ
زيتونة يابس . عرَق في الحجارة.
شمس عمودية. لا حياة ولا موت
حول المكان . جفاف كرائحة الضوء في القمح
لا ماء في البئر و القلب .
لا حبَّ في عَمَل الحبِّ... كالواجب الوطنيِّ
هو الحبّ. صحراء غير سياحيَّةٍ، غير
مرئيَّةٍ خلف هذا الجفاف. جفاف
كحرية السجناء بتنظيف أعلامهم من
براز الطيور. جفاف كحقِّ النساء
بطاعة أزواجهنَّ وهجر المضاجع. لا
عشب أَخضر، لا عشب أَصفر. لا
لون في مَرَض اللون. كلّ الجهات
رمادٌية
لا انتظارٌ إذاً
للبرابرة القادمين إلينا
غداة احتفالاتنا بالوطنْ
 




 





طباق
إلى إدوارد سعيد

محمود درويش - فلسطين
نيويورك، نوفمبر، الشارع الخامس
الشمس صحن من المعدن المتطاير
فوضى لغات
زحام على مهرجان القيامة
هاوية كهربائية بعلو السماء
قصائد ويتمان
تمثال حرية لا مبال بزوّاره
جامعات
مسارح
قداس جاز
متاحف للغد
لا وقتَ في الوقت
قلت لنفسي الغريبة:
هل هذه بابل، أم سدوم؟
هناك التقيت بإدوارد قبل ثلاثين عاما
وكان الزمان أقلَّ جموحا من الآن
قال كلانا:
إذا كان ماضيك تجربة
فاجعل الغد معنىً ورؤيا
لنذهب إلى غدنا واثقين بصدق الخيال
ومعجزة العشب
لا أتذكر أنّا ذهبنا إلى السينما في المساء
ولكنْ سمعت هنودا قدامى ينادونني
لا تثق بالحصان ولا بالحداثة
لا ضحية تسأل جلادها: هل أنا أنتَ
لو كان سيفي أكبرَ من وردتي
هل تسأل إن كنت أفعل مثلك
سؤال كهذا يثير فضول الروائي
في مكتب من زجاج
يطل على زنبق في الحديقة
حيث تكون يد الفرضية بيضاء
مثل ضمير الروائي
حين يصفّي الحساب مع نزعة البشرية
لا غدَ في الأمس
فلتتقدمْ إذا
قد يكون التقدم جسر الرجوع
إلى البربرية

نيويورك
إدوارد يصحو على جرس الفجر
يعزف لحنا لموتسارت
يركض في ملعب التنس الجامعي
يفكر في رحلة الفكر عبر الحدود وفوق الحواجز
يقرأ نيويورك تايمز
يكتب تعليقه المتوتر
يلعن مستشرقا يرسل الجنرال إلى نقطة الضعف
في قلب شرقية
يستحمّ
ويختار بذلته بأناقة ديك
ويشرب قهوته بالحليب
ويصرخ في الفجر: لا تتلكأ
على الريح يمشي
وفي الريح يعرف من هو
لا سقف للريح
لا بيت للريح
والريح بوصلة لشمال الغريب
يقول:
أنا من هناك
أنا من هنا
ولست هناك ولست هنا
ليَ اسمان يلتقيان ويفترقان
ولي لغتان نسيت بأيهما كنت أحلم
لي لغة إنجليزية للكتابة طيّعة المفردات
ولي لغة من حوار السماء مع القدس
فضية النبر
لكنها لا تطيع مخيلتي
والهوية قلت
قال دفاع عن الذات
إن الهوية بنت الولادة
لكنها في النهاية إبداع صاحبها
لا وراثة ماض
أنا المتعدد
في داخلي خارجي المتجدد
لكنني أنتمي لسؤال الضحية
لو لم أكن من هناك
لدربت قلبي على أن يربي غزال الكناية
فاحمل بلادك أنّى ذهبت
وكن نرجسيَ السلوك
لكي يعرفوك إذا لزم الأمر
منفى هو العالم الخارجي
ومنفى هو العالم الباطني
فمن أنت بينهما؟
لا أعرّف نفسي لئلا أضيّعها
وأنا ما أنا
وأنا آخري في ثنائية تتناغم بين الكلام وبين الإشارة
ولو كنت أكتب شعرا لقلت:
أنا اثنان في واحد كجناحيْ سنونوة
إن تأخر فصل الربيع اكتفيت بنقل الإشارة
يحب بلادا
ويرحل عنها
هل المستحيل بعيد؟
يحب الرحيل إلى أي شيء
ففي السفر الحر بين الثقافات
قد يجد الباحثون عن الجوهر البشري
مقاعد جاهزة للجميع
هنا هامش يتقدّم
أو مركز يتراجع
لا الشرق شرق تماماً
ولا الغرب غرب تماماً
فإن الهوية مفتوحة للتعدد
لا صَدَفا
أو خنادق
كان المجاز ينام على ضفة النهر
لولا التلوث لاحتضن الضفة الثانية
هل كتبت الرواية؟
حاولت
حاولت أن أستعيد بها صورتي
في مرايا النساء البعيدات
لكنّهن توغلن في ليلهن الحصين
وقلنَ: لنا عالم مستقل عن النص
لن يكتب الرجل المرأة اللغز والحلم
لن تكتب المرأة الرجل الرمز والنجم
لا حب يشبه حباً
ولا ليل يشبه ليلاً
فدعنا نعدد صفات الرجال ونضحك
وماذا فعلت؟
ضحكت على عبثي
ورميتُ الرواية في سلة المهملات
المفكر يكبح سرد الروائي
والفيلسوف يشرّح ورد المغني
يحب بلاداً
ويرحل عنها
أنا ما أقول وما سأكون
سأصنع نفسي بنفسي
وأختار منفاي موسوعة لفضاء الهوية
منفاي خلفية المشهد الملحمي
أدافع عن حاجة الشعراء
إلى الغد والذكريات معاً
وأدافع عن شجر ترتديه الطيورُ
بلاداً ومنفى
وعن قمر لم يزل صالحاً لقصيدة حب
أدافع عن فكرة كسرتها هشاشة أصحابها
وأدافع عن بلد خطفته الأساطير
هل تستطيع الرجوع إلى أي شيْ؟
أمامي يجرّ ورائي ويسرع
لا وقت في ساعتي لأخط سطوراً على الرمل
لكنني أستطيع زيارة أمس
كما يفعل الغرباء
إذا استمعوا في المساء الحزين
إلى الشاعر الرعوي:
فتاة على النبع تملأ جرتها بدموع السحاب
وتبكي وتضحك
من نحلة لسعت قلبها
في مهب الغياب
هل الحب ما يوجع الماء
أم مرض في الضباب
..
إلى آخر الأغنية
إذا
قد يصيبك داء الحنين
حنيني إلى الغد
أبعد أعلى وأبعد
حلمي يقود خطاي
ورؤياي تجلس حلمي على ركبتيّ
كقط أليف
هو الواقعي الخيالي
وابن الإرادة
في وسعنا أن نعدّل حتمية الهاوية
والحنينُ إلى أمس عاطفة لا تخص المفكرَ
إلا ليفهم شوق الغريب
إلى أدوات الغياب
وأما أنا فحنيني صراع على حاضر
يمسك الغد من خصيتيه
ألم تتسلل إلى الأمس
حين ذهبت إلى البيت
بيتك في القدس
في حارة الطالبية؟
هيأت نفسي لأن أتمدد في تخت أمي
كما يفعل الطفل حين يخاف أباه
وحاولت أن أستعيد ولادة نفسي
وحاولت أن أتحسس جلد الغياب
ورائحة الصيف من ياسمين الحديقة
لكنّ ضبع الحقيقة فرّقني
عن حنين تلفت كاللص حولي
أخفت؟
وماذا أخذت؟
لا أستطيع لقاء الخسارة وجها لوجه
وقفت على الباب كالمتسوّل
هل أطلب الإذن من غرباء
ينامون فوق سريري أنا في زيارة نفسي
لخمس دقائق
هل أنحني باحترام
لسكان حلمي الطفولي
هل يسألون:
من السائل الأجنبي الفضولي
هل أستطيع الكلام عن السلم والحرب
بين الضحايا وبين ضحايا الضحايا
بلا كلمات إضافية
وبلا جملة اعتراضية
هل يقولون لي:
لا مكان لحلمين في مخدع واحد
لا أنا أو هو
ولكنه قارئ يتساءل
عما يقول لنا الشعر في زمن الكارثة
دم
ودم
ودم في بلادك
باسمي وباسمك
في زهرة اللوز
في قشرة الموز
في لبن الطفل
في اللون
في الظل
في حبة القمح
في علبة الملح
قناصة بارعون
يصيبون أهدافهم بامتياز
دما
ودما
ودما
هذه الأرض أصغر من دم أبنائها الواقفين
على عتبات القيامة مثل القرابين
هل هذه الأرض حقا مباركة
أم معمّدة بدم
ودم
ودم لا تجففه الصلوات
ولا الرمل
لا عدّ في صفحات الكتاب المقدس
يكفي لكي يفرح الشهداء
بحرية المشي فوق الغمام
دم في النهار
دم في الظلام
دم في الكلام
يقول: القصيدة قد تستضيف الخسارة
خيطا من الضوء يلمع في قلب غيتارة
أو مسيحا على فرس مثخن بالمجاز الجميل
فليس الجمالي إلا حضور الحقيقي في الشكل.
في عالم لا سماء له
تصبح الأرض هاوية
والقصيدة إحدى هِبات العزاء
وإحدى صفات الرياح
جنوبية أو شمالية
لا تصف ما ترى الكاميرا من جروحك
واصرخ لتسمع نفسك
واصرخ لكي تعلم
أن الحياة على هذه الأرض ممكنة
فاخترع أملا للكلام
ابتكر جهة أو سرابا
يطيل الرجاء
وغنّ
فإن الجمالي حرية
أقول:
الحياة التي لا تعرّف
إلا بضد هو الموت
ليست حياة
يقول:
سنحيا
ولو تركتنا الحياة إلى شأننا
فلنكن سادة الكلمات
التي سوف تجعل قراءها خالدين
على حد تعبير صاحبك الفذ ريتسوس
وقال: إذا متّ قبلكَ
أوصيك بالمستحيل
سألت:
هل المستحيل بعيدٌ؟
فقال: على بعد جيل
سألت:
فإن متّ قبلك
قال: أعزّي جبال الجليل
وأكتب: ليس الجمالي إلا بلوغ الملائم
والآن، لا تنس
إن متّ قبلكَ
أوصيك بالمستحيل
عندما زرته
في سدومَ الجديدة في عام ألفين واثنين
كان يقاوم حرب سدوم على أهل بابل
والسرطان معا
كان كالبطل الملحمي الأخير
يدافع عن حق طروادة في اقتسام الرواية
نسر يودع قمته
عاريا
عاريا
فالإقامة فوق الأولمب
وفوق القممْ
تثير السأم
وداعا
وداعا
وداعا لشعر الألم






 




لماذا تركت الحصان وحيداً..؟

محمود درويش - فلسطين
إلى أين تأخذني يا أبي؟
إلى جهة الريح يا ولدي …
… وهما يخرجان من السهل ، حيث
أقام جنود بونابرت تلاً لرصد
الظلال على سور عكا القديم ـ
يقول أبٌ لابنه: لا تخف. لا
تخفْ من أزيز الرصاص ! التصقْ
بالتراب لتنجو! سننجو ونعلو على
جبل في الشمال ، ونرجع حينَ
يعود الجنود إلى أهلهم في البعيدِ
ـ ومن يسكن البيت من بعدنا
يا أبي ؟
ـ سيبقى على حاله مثلما كان
يا ولدي !
تحسس مفتاحه مثلما يتحسس
أعضاءه ، واطمئن. وقال لهُ
وهما يعبران سياجاً من الشوك :
يا ابني تذكّرْ! هنا صلب الإنجليزُ
أباك على شوك صبارة ليلتين،
ولم يعترف أبداً. سوف تكبر يا
ابني، وتروي لمن يرثون بنادقهم
سيرة الدم فوق الحديدِ …
ـ لماذا تركت الحصان وحيداً؟
ـ لكي يؤنس البيت ، يا ولدي ،
فالبيوت تموت إذا غاب سكانها …
تفتح الأبدية أبوابها من بعيدٍ ،
لسيارة الليل. تعوي ذئاب
البراري على قمر خائف. ويقول
أب لابنه: كن قوياً كجدّك!
واصعد معي تلة السنديان الأخيرة
يا ابني، تذكّر: هنا وقع الانكشاريّ
عن بغلة الحرب ، فاصمد معي
لنعودَ
ـ متى يا أبي ؟
ـ غداً. ربما بعد يومين يا ابني!
وكان غدٌ طائشٌ يمضغ الريح
خلفهما في ليالي الشتاء الطويلة
وكان جنود يهوشع بن نون يبنون
قلعتهم من حجارة بيتهما. وهما
يلهثان على درب (قانا): هنا
مر سيدنا ذات يوم. هنا
جعل الماء خمراً. وقال كلاماً
كثيراً عن الحب، يا ابني تذكّر
غداً. وتذكر قلاعاً صليبية
قضمتها حشائش نيسان بعد
رحيل الجنود …



 


عندما يبتعد

محمود درويش - فلسطين
 
للعدوّ الذي يشرب الشاي في كوخنا فرسٌ في الدخان.
وبنتٌ لها حاجبان كثيفان.
عينان بنّيتان.
وشعرٌ طويلٌ كليل الأغاني على الكتفين.
وصورتها لا تفارقه كلّما جاءنا يطلب الشاي.
لكنّه لا يحدّثنا عن مشاغلها في المساء،
وعن فرسٍ تركته الأغاني على قمّة التلّ...
... في كوخنا يستريح العدوّ من البندقيّة،
يتركها فوق كرسيّ جدّي.
ويأكل من خبزنا مثلما يفعل الضيف.
يغفو قليلاً على مقعد الخيزران.
ويحنو على فرو قطّتنا.
ويقول لنا دائمًا:
لا تلوموا الضحيّة!
نسأله: من هي ؟
فيقول: دمٌ لا يجفّفه الليل.../
... تلمع أزرار سترته عندما يبتعد
عم مساءً! وسلّم على بئرنا
وعلى جهة التين. وامش الهوينى على
ظلّنا في حقول الشعير. وسلّم على سرونا
في الأعالي. ولا تنس بوّابة البيت مفتوحةً
في الليالي. ولا تنس خوف الحصان من الطائرات،
وسلّم علينا، هناك إذا اتّسع الوقت.../
هذا الكلام الذي كان في ودّنا
أن نقول على الباب... يسمعه جيّدًا
جيّدًا، ويخبّئه في السّعال السريع
ويلقي به جانبًا.
فلماذا يزور الضحيّة كلّ مساءٍ ؟
ويحفظ أمثالنا مثلنا،
ويعيد أناشيدنا ذاتها،
عن مواعيدنا ذاتها في المكان المقدّس ؟
لولا المسدس
لاختلط الناي في الناي ...
... لن تنتهي الحرب ما دامت الأرض فينا تدور على نفسها!
فلنكن طيّبين إذًا. كان يسألنا أن نكون هنا طيّبين.
ويقرأ شعرًا لطيّار (ييتس):
أنا لا أحبّ الذين أدافع عنهم،
كما أنني لا أعادي الذين أحاربهم...
ثم يخرج من كوخنا الخشبيّ،
ويمشي ثمانين مترًا إلى
بيتنا الحجريّ هناك على طرف السّهل.../
سلّم على بيتنا يا غريب.
فناجين قهوتنا لا تزال على حالها.
هل تشمّ أصابعنا فوقها ؟
هل تقول لبنتك ذات الجديلة والحاجبين الكثيفين إنّ لها صاحبًا غائبًا،
يتمنّى زيارتها، لا لشيءٍ...
ولكن ليدخل مرآتها ويرى سرّه:
كيف كانت تتابع من بعده عمره
بدلاً منه؟ سلّم عليها
إذا اتّسع الوقت...
هذا الكلام الذي كان في ودّنا
أن نقول له، كان يسمعه جيّدًا جيّدًا،
ويخبّئه في سعالٍ سريع،
ويلقى به جانبًا، ثم تلمع
أزرار سترته، عندما يبتعد...







 




أنا من هناك
محمود درويش - فلسطين

أنا من هناك. ولي ذكرياتٌ . ولدت كما تولد الناس. لي والدة
وبيتٌ كثير النوافذِ. لي إخوةٌ. أصدقاء. وسجنٌ بنافذة باردهْ.
ولي موجةٌ خطفتها النوارس. لي مشهدي الخاص. لي عشبةٌ زائدهْ
ولي قمرٌ في أقاصي الكلام، ورزقُ الطيور، وزيتونةٌ خالدهْ
مررتُ على الأرض قبل مرور السيوف على جسدٍ حوّلوه إلى مائدهْ.
أنا من هناك. أعيد السماء إلى أمها حين تبكي السماء على أمها،
وأبكي لتعرفني غيمةٌ عائدهْ.
تعلّمتُ كل كلام يليقُ بمحكمة الدم كي أكسر القاعدهْ
تعلّمتُ كل الكلام، وفككته كي أركب مفردةً واحدهْ
هي: الوطنُ...






 


يطير الحمام .. يحطُّ الحمام
محمود درويش - فلسطين
 
يطير الحمام
يحطّ الحمام
أعدّي لي الأرض كي أستريح
فإني أحبّك حتى التعب
صباحك فاكهةٌ للأغاني وهذا المساء ذهب
ونحن لنا حين يدخل ظلٌّ إلى ظلّه في الرخام
وأشبه نفسي حين أعلّق نفسي على عنقٍ
لا تعانق غير الغمام
وأنت الهواء الذي يتعرّى أمامي كدمع العنب
وأنت بداية عائلة الموج حين تشبّث بالبرّ حين اغترب
وإني أحبّك، أنت بداية روحي، وأنت الختام
يطير الحمام
يحطّ الحمام
أنا وحبيبي صوتان في شفةٍ واحده
أنا لحبيبي أنا. وحبيبي لنجمته الشارده
وندخل في الحلم، لكنّه يتباطأ كي لا نراه
وحين ينام حبيبي أصحو لكي أحرس الحلم مما يراه
وأطرد عنه الليالي التي عبرت قبل أن نلتقي
وأختار أيّامنا بيديّ كما اختار لي وردة المائده
فنم يا حبيبي ليصعد صوت البحار إلى ركبتيّ
ونم يا حبيبي لأهبط فيك وأنقذ حلمك من شوكةٍ حاسده
ونم يا حبيبي عليك ضفائر شعري، عليك السلام
يطير الحمام
يحطّ الحمام
رأيت على البحر إبريل
قلت: نسيت انتباه يديك
نسيت التراتيل فوق جروحي
فكم مرّةً تستطيعين أن تولدي في منامي
وكم مرّةً تستطيعين أن تقتليني لأصرخ
إني أحبّك كي تستريحي
أناديك قبل الكلام أطير بخصرك قبل وصولي إليك
فكم مرّةً تستطيعين أن تضعي في مناقير هذا الحمام
عناوين روحي
وأن تختفي كالمدى في السفوح
لأدرك أنّك بابل، مصر، وشام
يطير الحمام يحطّ الحمام
إلى أين تأخذني يا حبيبي من والديّ
ومن شجري، من سريري الصغير ومن ضجري،
من مراياي من قمري، من خزانة عمري
ومن سهري، من ثيابي ومن خفري
إلى أين تأخذني يا حبيبي
إلى أين تشعل في أذنيّ البراري
تحمّلني موجتين وتكسر ضلعين، تشربني ثم توقدني،
ثم تتركني في طريق الهواء إليك
حرامٌ... حرام
يطير الحمام يحطّ الحمام
- لأني أحبك، خاصرتي نازفه
وأركض من وجعي في ليالٍ يوسّعها الخوف مما أخاف
تعالى كثيرًا، وغيبي قليلاً تعالى قليلاً، وغيبي كثيرًا
تعالى تعالى ولا تقفي، آه من خطوةٍ واقفه
أحبّك إذ أشتهيك أحبّك إذ أشتهيك وأحضن هذا الشعاع المطوّق بالنحل والوردة الخاطفه
أحبك يا لعنة العاطفه
أخاف على القلب منك، أخاف على شهوتي أن تصل
أحبّك إذ أشتهيك
أحبك يا جسدًا يخلق الذكريات ويقتلها قبل أن تكتمل
أحبك إذ أشتهيك أطوّع روحي على هيئة القدمين
- على هيئة الجنّتين أحكّ جروحي بأطراف صمتك.. والعاصفه
أموت، ليجلس فوق يديك الكلام
يطير الحمام يحطّ الحمام
لأني أحبّك (يجرحني الماء) والطرقات إلى البحر تجرحني
والفراشة تجرحني وأذان النهار على ضوء زنديك يجرحني
يا حبيبي، أناديك طيلة نومي، أخاف انتباه الكلام
أخاف انتباه الكلام إلى نحلة بين فخذيّ تبكي
لأني أحبّك يجرحني الظلّ تحت المصابيح، يجرحني طائرٌ في السماء البعيدة،
عطر البنفسج يجرحني أوّل البحر يجرحني آخر البحر يجرحني
ليتني لا أحبّك
يا ليتني لا أحبّ ليشفى الرخام
يطير الحمام يحطّ الحمام
- أراك، فأنجو من الموت.
جسمك مرفأ
بعشر زنابق بيضاء، عشر أنامل تمضي السماء
إلى أزرقٍ ضاع منها
وأمسك هذا البهاء الرخاميّ، أمسك رائحةً للحليب المخبّأ
في خوختين على مرمر
ثم أعبد من يمنح البرّ والبحر ملجأ على ضفّة الملح والعسل الأوّلين
سأشرب خرّوب ليلك ثم أنام على حنطةٍ تكسر الحقل، تكسر حتى الشهيق فيصدأ
أراك، فأنجو من الموت. جسمك مرفأ
فكيف تشرّدني الأرض في الأرض
كيف ينام المنام
يطير الحمام يحطّ الحمام
حبيبي، أخاف سكوت يديك فحكّ دمي كي تنام الفرس
حبيبي، تطير إناث الطيور إليك فخذني أنا زوجةً أو نفس
حبيبي، سأبقي ليكبر فستق صدري لديك ويجتثّني من خطاك الحرس
حبيبي، سأبكي عليك عليك عليك لأنك سطح سمائي وجسمي أرضك في الأرض
جسمي مقام
يطير الحمام يحطّ الحمام
رأيت على الجسر أندلس الحبّ والحاسّة السادسه
على وردة يابسه أعاد لها قلبها وقال: يكلفني الحبّ ما لا أحبّ يكلفني حبّها
ونام القمر على خاتم ينكسر وطار الحمام
رأيت على الجسر أندلس الحب والحاسّة السادسه
على دمعةٍ يائسه أعادت له قلبه وقالت
يكلفني الحبّ ما لا أحبّ يكلفني حبّه ونام القمر على خاتم ينكسر
وطار الحمام
وحطّ على الجسر والعاشقين الظلام
يطير الحمام يطير الحمام



 


 
نسرٌ على ارتفاع منخفض
محمود درويش - فلسطين
قال المسافر في القصيدة
للمسافر في القصيدة:
كم تبقَّى من طريقك؟
-كله
- فاذهب إذاً، واذهب
كأنك قد وصلت...ولم تصل
- لولا الجهات، لكان قلبي هدهداً
- لو كان قلبك هدهداً لتبعته
- من أنت؟ ما اسمك؟
- لا اسم لي في رحلتي
- أأراك ثانية؟
- نعم. في قمتي جبلين بينهما
صدى عال وهاوية... أراك
- وكيف نقفز فوق هاوية
ولسنا طائرين؟
- إذن نغني:
من يرانا لا نراه
ومن نراه لا يرانا
- ثم ماذا؟
- لا نغني
- ثم ماذا؟
- ثم تسألني وأسأل:
كم تبقى من طريقك؟
- كله
- هل كله يكفي لكي يصل المسافر؟
- لا. ولكني أرى نسراً خرافياً
يحلق فوقنا... وعلى ارتفاع منخفض!








 
السروة انكسرت
محمود درويش - فلسطين
 
ألسروةُ إنكسَرَتْ كمئذنةٍ، ونامت في
الطريق على تَقَشُّف ظِلِّها، خضراءَ، داكنةً،
كما هِيَ. لم يُصَبْ أَحدٌ بسوء. مَرّت
العَرَباتُ مُسْرِعَةًعلى أغصانها. هَبَّ الغبارُ
على الزجاج... ألسروةُ انكسرتْ، ولكنَّ
الحمامة لم تغيِّر عُشَّها العَلَنيَّ في دارٍ
مُجَاورةٍ. وحلّق طائران مهاجران على
كَفَاف مكانها، وتبادلا بعضَ الرموز.
وقالت امرأةٌ لجارتها: تُرَى، شأهَدْتِ عاصفةً؟
فقالت: لا، ولا جرَّافةً... والسروةُ
انكسرتْ. وقال العابرون على الحُطام:
لعلَّها سَئِمَتْ من الإهمال أَو هَرِمَتْ
من الأيّام، فَهْيَ طويلةٌ كزرافةٍ، وقليلةُ
المعنى كمكنسةِ الغبار، ولا تُظَلِّلُ عاشِقَيْن.
وقال طفلٌ: كنتُ أَرسمها بلا خطأ،
فإنَّ قوامَها سَهْلٌ. وقالت طفلةٌ: إن
السماءَ اليوم ناقصةٌ لأن السروةٌ انكسرت.
وقال فتىً: ولكنَّ السماءَ اليوم كاملةٌ
لأن السروةَ انكسرتْ. وقُلْتُ أَنا
لنفسي: لا غُموضَ ولا وُضُوحَ،
السروة انكسرتْ، وهذا كُلُّ ما في
الأمرِ: إنَّ السروة انكسرتْ
 

 



 

 
ليس للكردي إلا الريح
محمود درويش - فلسطين
 
يتذكر الكرديُّ حين أزوره ، غده ..
فيبعده بمكنسة الغبار : إليك عني !
فالجبال هي الجبال. ويشرب الفودكا
لكي يبقى الخيال على الحياد: أنا
المسافر في مجازي، و الكراكيّ الشقية
إخوتي الحمقى. وينفض عن هويته
الظلال: هويتي لغتي. أنا.. و أنا.
أنا لغتي. أنا المنفي في لغتي.
وقلبي جمرة الكردي فوق جباله الزرقاء ../
كل مدينة أخرى. على دراجة
حمل الجهات، وقال: أسكن أينما
وقعت بي الجهة الأخيرة. هكذا
اختارَ الفراغ ونام. لم يحلم
بشيء منذ حل الجن في كلماته،
(كلماته عضلاته. عضلاته لكمانه)
فالحالمون يقدسون الأمسَ، أو
يرشون بواب الغد الذهبي..
لا غد لي ولا أمس. الهنيهة
ساحتي البيضاء../

منزله نظيف مثل عين الديك ..
منسيّ كخيمة سيد القوم الذين
تبعثروا كالريش. سجاد من الصوف
المجعد. معجمٌ متآكل. كتب مجلدة
على عجل. مخدات مطرزة بإبرة
خادم المقهى. سكاكين مجلخة لذبح
الطير و الخنزير. فيديو للاباحيات.
باقات من الشوك المعادل للبلاغة.
شرفة مفتوحة للاستعارة. ها هنا
يتبادل الأتراك والإغريق أدوار
الشتائم. تلك تسليتي وتسلية
الجنود الساهرين على حدود فكاهة
سوداء../

ليس مسافرا هذا المسافر، كيفما اتفق..
الشمال هو الجنوب، الشرق غربٌ
في السراب. ولا حقائب للرياح،
ولا وظيفة للغبار. كأنه يخفي
الحنين الى سواه، فلا يغني .. لا
يغني حين يدخل ظله شجر الأكاسيا،
أو يبلل شعره مطر خفيف..
بل يناجي الذئب، يسأله النزال :
تعال يا ابن الكلب نقرع طبل
هذا الليل حتى نوقظ الموتى. فإن
الكرد يقتربون من نار الحقيقة،
ثم يحترقون مثل فراشة الشعراء/

يعرف ما يريد من المعاني. كلها
عبثٌ. وللكلمات حيلتها لصيد نقيضها،
عبثاً. يفضّ بكارة الكلمات ثم يعيدها
بكراً الى قاموسه. ويسوس خيل
الأبجدية كالخراف الى مكيدته، ويحلق
عانة اللغة : انتقمت من الغياب.
فعلتُ ما فعل الضبابُ بإخوتي.
وشويت قلبي كالطريدة.
لن أكون كما أريد. ولن أحب الأرض أكثر
أو أقل من القصيدة. ليس
للكردي إلا الريح تسكنه ويسكنها.
وتدمنه ويدمنها، لينجو من
صفات الأرض والأشياء ../

كان يخاطب المجهول: يا ابني الحر !
يا كبش المتاه السرمدي. إذا رأيتَ
أباك مشنوقاً فلا تنزله عن حبل
السماء، ولا تكفنه بقطن نشيدك
الرعوي. لا تدفنه يا ابني، فالرياح
وصية الكردي للكردي في منفاه،
يا ابني .. و النسور كثيرة حولي
وحولك في الأناضول الفسيح.
جنازتي سرية رمزيةٌ، فخذ الهباءَ
الى مصائره، وجر! سماءك الأولى
الى قاموسك السحري. واحذر
لدغة الأمل الجريح، فإنه وحشٌ
خرافيٌ. وأنت الآن .. أنت الآن
حرّ، يا ابن نفسك، أنت حرَ
من أبيك ولعنة الأسماء../

باللغة انتصرتَ على الهوية
قلتُ للكردي، باللغة انتقمتَ
من الغياب
فقال : لن أمضي الى الصحراء
قلت ولا أنا..
ونظرتُ نحو الريح/
- عمتَ مساء
- عم مساء!



 



يختارني الإيقاعُ ، يشرقُ بي
محمود درويش - فلسطين


أنا رَجْعُ الكمان، ولستُ عازِفَهُ
أنا في حضرة الذكرى
صدى الأشياء تنطقُ بي
...فأنطقُ كُلَّما أصغيتُ للحجرِ استمعتُ الى
هديلِ يَمامةٍ بيضاءَ
تشهَق بي:
أخي! أنا أُخْتُكَ الصُّغْرى،
فأَذرف باسمها دَمْعَ الكلامِ
وكُلَّما أَبْصَرْتُ جذْعَ الزّنْزَلخْتِ
على الطريق الى الغمامِ،
سمعتُُ قلبِ الأُمِّ
يخفقُ بي:
أنا امرأة مُطلَّقةٌ،
فألعن باسمها زيزَ الظلامِ
وكُلَّما شاهدتُ مرآةً على قمرٍ
رأيتُ الحبّ شيطاناً
يُحَمْلِقُ بي:
أنا ما زلْتُ موجوداً
ولكن لن تعود كما تركتُك
لن تعود، ولن أعودَ
فيكملُ الإيقاعُ دَوْرَتَهُ
ويشرَقُ بي...
 



 

لي حكمة المحكوم بالإعدام
محمود درويش - فلسطين

ليَ حكمةُ المحكوم بالإعدامِ:
لا أشياءَ أملكُها لتملكني،
كتبتُ وصيَّتي بدمي:
"ثِقُوا بالماء يا سُكّان أُغنيتي!"
ونِمْتُ مُضرّجاً ومتوَّجاً بغدي...
حلِمْتُ بأنّ قلب الأرض أكبرُ
من خريطتها،
وأوضحُ من مراياها ومِشْنَقتي.
وهِمْتُ بغيمةٍ بيضاء تأخذني
الى أعلى
كأنني هُدْهُدٌ، والريحُ أجنحتي.
وعند الفجر، أَيقظني
نداءُ الحارس الليليِّ
من حُلْمي ومن لغتي:
ستحيا ميتةً أخرى،
فعدِّلْ في وصيّتك الأخيرة،
قد تأجَّل موعدُ الإعدام ثانيةً
سألت: الى متى؟
قال: أنتظر لتموت أكثر
قلتُ: لا أشياء أملكها لتملكني
كتبتُ وصيّتي بدمي:
"ثِقُوا بالماء
يا سُكّان أغنيتي!"
وأنا، وإن كنت الأخير
وأنا، وإن كُنْتُ الأخيرَ،
وجدْتُ ما يكفي من الكلماتِ...
كلُّ قصيدةٍ رسمٌ
سأرسم للسنونو الآن خارطةَ الربيعِ
وللمُشاة على الرصيف الزيزفون
وللنساء اللازوردْ...
وأنا، سيحمِلُني الطريقُ
وسوف أحملُهُ على كتفي
الى أن يستعيدَ الشيءُ صورتَهُ،
كما هي،
واسمَه الأصليّ في ما بعد/
كلُّ قصيدة أُمٌّ
تفتش للسحابة عن أخيها
قرب بئر الماء:
"يا ولدي! سأعطيك البديلَ
فإنني حُبْلى..."/
وكُلُّ قصيدة حُلمٌ:
"حَلِمْتُ بأنّ لي حلماً"
سيحملني وأحملُهُ
الى أن أكتب السطر الأخيرَ
على رخام القبرِ:
"نِمْتُ... لكي أطير"
... وسوف أحمل للمسيح حذاءَهُ الشتويَّ
كي يمشي، ككُلِّ الناس،
من أعلى الجبال... الى البحيرة



 




في بيت أمي
محمود درويش - فلسطين

في بيت أُمِّي صورتي ترنو إليّ
ولا تكفُّ عن السؤالِ:
أأنت، يا ضيفي، أنا؟
هل كنتَ في العشرين من عُمري،
بلا نظَّارةٍ طبيةٍ،
وبلا حقائب؟
كان ثُقبٌ في جدار السور يكفي
كي تعلِّمك النجومُ هواية التحديق
في الأبديِّ...
(ما الأبديُّ؟ قُلتُ مخاطباً نفسي)
ويا ضيفي... أأنتَ أنا كما كنا؟
فمَن منا تنصَّل من ملامحِهِ؟
أتذكُرُ حافرَ الفَرَس الحرونِ على جبينكَ
أم مسحت الجُرحَ بالمكياج كي تبدو
وسيمَ الشكل في الكاميرا؟
أأنت أنا؟ أتذكُرُ قلبَكَ المثقوبَ
بالناي القديم وريشة العنقاء؟
أم غيّرتَ قلبك عندما غيّرتَ دَربَكَ؟
قلت: يا هذا، أنا هو أنت
لكني قفزتُ عن الجدار لكي أرى
ماذا سيحدث لو رآني الغيبُ أقطِفُ
من حدائقِهِ المُعلَّقة البنفسجَ باحترامً...
ربّما ألقى السلام، وقال لي:
عُدْ سالماً...
وقفزت عن هذا الجدار لكي أرى
ما لا يُرى
وأقيسَ عُمْقَ الهاويةْ




 



لا ينظرون وراءهم
محمود درويش - فلسطين

لا ينظرون وراءهم ليودِّعوا منفى،
فإنَّ أمامهم منفى، لقد ألِفوا الطريق
الدائريَّ، فلا أمام ولا وراء، ولا
شمال ولا جنوب. "يهاجرون" من
السياج الى الحديقة. يتركون وصيةً
في كل مترٍ من فناء البيت:
"لا تتذكروا من بعدنا
إلا الحياة"...
"يسافرون" من الصباح السندسي الى
غبارٍ في الظهيرة، حاملين نُعوشَهُم ملأى
بأشياء الغياب: بطاقة شخصية، ورسالةٍ
لحبيبةٍ مجهولةِ العنوانِ:
"لا تتذكري من بعدنا
إلا الحياة"
و"يرحلون" من البيوت الى الشوارع،
راسمين إشارة النصر الجريحة، قائلين
لمن يراهُمْ:
"لم نَزَلْ نحيا، فلا تتذكّرونا"!
يخرجون من الحكاية للتنفُّس والتشمُّس.
يحلُمون بفكرةِ الطيرانِ أعلى... ثم أعلى.
يصعدون ويهبطون. ويذهبون ويرجعون.
ويقفزون من السيراميك القديم الى النجوم.
ويرجعون الى الحكاية... لا نهاية للبدايةِ.
يهربون من النعاس الى ملاك النوم،
أبيضَ، أحمرَ العينين من أثر التأمُّل
في الدم المسفوك:
"لا تتذكروا من بعدنا
إلا الحياة


 



هو هادئٌ ، وأنا كذلك
محمود درويش - فلسطين

هوَ هادئٌ، وأنا كذلك
يحتسي شاياً بليمونٍ،
وأشربُ قهوةً،
هذا هو الشيءُ المغايرُ بيننا.
هوَ يرتدي، مثلي، قميصاً واسعاً ومُخططاً
وأنا أطالعُ، مثلَهُ، صُحُفَ المساءْ.
هو لا يراني حين أنظرُ خلسةً،
أنا لا أراه حين ينظرُ خلسةً،
هو هادئٌ، وأنا كذلك.
يسألُ الجرسون شيئاً،
أسألُ الجرسونَ شيئاً...
قطةٌ سوداءُ تعبُرُ بيننا،
فأجسّ فروةَ ليلها
ويجسُّ فروةَ ليلها...
أنا لا أقول لَهُ: السماءُ اليومَ صافيةٌ
وأكثرُ زرقةً.
هو لا يقول لي: السماءُ اليوم صافيةٌ.
هو المرئيُّ والرائي
أنا المرئيُّ والرائي.
أحرِّكُ رِجْليَ اليُسرى
يحرك رجلَهُ اليُمنى.
أدندنُ لحن أغنيةٍ،
يدندن لحن أغنية مشابهةٍ.
أفكِّرُ: هل هو المرآة أبصر فيه نفسي؟
ثم أنظر نحو عينيه،
ولكن لا أراهُ...
فأتركُ المقهى على عجلٍ.
أفكّر: رُبَّما هو قاتلٌ، أو رُبما
هو عابرٌ قد ظنَّ أني قاتلٌ
هو خائفٌ، وأنا كذلك!
 


 


الظل
محمود درويش - فلسطين

الظلُّ، لا ذَكرٌ ولا أنثى
رماديٌّ، ولو أشعلْتُ فيه النارَ...
يتبعُني، ويكبرُ ثُمَّ يصغرُ
كنت أمشي. كان يمشي
كنت أجلسُ. كان يجلسُ
كنت أركضُ. كان يركضُ
قلتُ: أخدعُهُ وأخلعُ معطفي الكُحْليَّ
...قلَّدني، وألقي عنده معطفَهُ الرماديَّ...
استدَرْتُ الى الطريق الجانبيةِ
.فاستدار الى الطريق الجانبية.
قلتُ: أخدعُهُ وأخرجُ من غروب مدينتي
فرأيتُهُ يمشي أمامي
...في غروب مدينةٍ أخرى...
فقلت: أعود مُتّكئاً على عكازتين
فعاد متكئاً على عكازتين
،فقلت: أحمله على كتفيَّ،
...فاستعصى...
فقلتُ: إذنْ، سأتبعُهُ لأخدعهُ
سأتبعُ ببغاء الشكل سخريةً
أقلِّد ما يُقلِّدني
لكي يقع الشبيهُ على الشبيه
فلا أراهُ، ولا يراني.


 


وأنت تعدّ فطورك
محمود درويش - فلسطين

‎لا تنس قوت الحمام‎
وأنت تخوض حروبك فكّر بغيرك
‎لا تنس من يطلبون السلام‎
وأنت تسدّد فاتورة الماء، فكّر بغيرك
‎من يرضعون الغمام
وانت تعود إلى البيت ، بيتك ، فكّر بغيرك
‎لا تنس شعب الخيام
وأنت تنام و تحصي الكواكب ، فكّر بغيرك
‎ثمّة من لم يجد حيّزاً للمنام
وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكّر
بغيرك ‏
‎من فقدوا حقّهم في الكلام
وأنت تفكّر بالآخرين البعيدين ، فكّر
بنفسك
‎قل: ليتني شمعةٌ في الظلامْ



 


لم ينتظر أحداً
محمود درويش - فلسطين

لم ينتظر احداً،
ولم يشعر بنقص في الوجود،
أمامه نهرٌ رماديٌ كمعطفه،
ونور الشمس يملأ قلبه بالصحو
والاشجار عاليةٌ/
ولم يشعر بنقصٍ في المكان،
المقعد الخشبي، قهوته، وكأس الماء
والغرباء، والاشياء في المقهى
كما هي،
والجرائد ذاتها: أخبار أمس، وعالمٌ
يطفو على القتلى كعادته/
ولم يشعر بحاجته إلى أملٍ ليؤنسه
كأن يخضوضرالمجهول في الصحراء
أو يشتاق ذئب ما إلى جيتارةٍ
فلن يقوى على التكرار...أعرف
آخر المشوارمنذ الخطوة الأولى-
يقول لنفسه- لم أبتعد عن عالمٍ،
لم أقترب من عالم
لم ينتظر أحداً..ولم يشعر بنقص
في مشاعره. فما زال الخريف مضيفه الملكي،
يغريه بموسيقى تعيد إليه عصر النهضة
الذهبيّ...والشعر المقفى بالكواكب والمدى
لم ينتظر أحداً أمام النهر/
في اللا انتظار أصاهر الدوريّ
في اللا انتظار أكون نهراً-قال-
لا أقسو على نفسي، ولا
أقسو على أحد،
وأنجو من سؤال فادح:
ماذا تريد
ماذا تريد


 
حين تطيل التأمل
محمود درويش - فلسطين

حين تطيلُ التأمل في وردةٍ
جرَحَتْ حائطاً، وتقول لنفسكَ :
لي أملٌ في الشفاء من الرمل /
يخضر قلبُكَ...
حين ترافق أنثى إلى السيركِ
ذات نهار جميل كأيقونةٍ ...
وتحلًّ كضيف على رقصة الخيلِ /
يحمر قلبُكَ...
حين تعُدُّ النجوم وتخطئ بعدَ
الثلاثة عشر، وتنعس كالطفلِ
في زرقة الليلِ /
يبيض قلبُكَ...
حين تسير ولا تجد الحلمَ
يمشي أمامك كالظلِّ /
يصفر قلبُكَ..

 
إن مشيت على شارع ٍ
محمود درويش - فلسطين

إن مشيت علي شارع لا ‏يؤدي إلى هاوية ‏
قل لمن يجمعون القمامة: شكراً!‏

إن رجعت إلي البيت، حياً، كما ترجع القافية ‏
بلا خللٍ، قل لنفسك: شكراً!‏

إن توقعت شيئاً وخانك حدسك، فاذهب غداً
لتري أين كنت وقل للفراشة: شكراً!‏

إن صرخت بكل قواك، ورد عليك الصدى ‏
‏(من هناك؟) فقل للهوية: شكراً!‏

إن نظرت إلي وردة دون أن توجعك ‏
وفرحت بها، قل لقلبك: شكراً!‏

إن نهضت صباحاً، ولم تجد الآخرين معك
يفركون جفونك، قل للبصيرة: شكراً!‏

إن تذكرت حرفاً من اسمك واسم بلادك ‏
كن ولداً طيباً!‏
ليقول لك الربُّ: شكراً ...‏
 


 
 
مقهى وأنت مع الجريدة
محمود درويش - فلسطين

مقهى، وأنت مع الجريدة جالس
لا، لست وحدك. نصف كأسك فارغ
والشمس تملأ نصفها الثاني ...

ومن خلف الزجاج تري المشاة المسرعين
ولا تُرى [إحدي صفات الغيب تلك:
ترى ولكن لا تُرى]
كم أنت حر أيها المنسي في المقهى!
فلا أحدٌ يرى أثر الكمنجة فيك،
لا أحدٌ يحملقُ في حضورك أو غيابك،
أو يدقق في ضبابك إن نظرت
إلى فتاة وانكسرت أمامها..
كم أنت حر في إدارة شأنك الشخصي
في هذا الزحام بلا رقيب منك أو
من قارئ!
فاصنع بنفسك ما تشاء، إخلع
قميصك أو حذاءك إن أردت، فأنت
منسي وحر في خيالك، ليس لاسمك
أو لوجهك ههنا عمل ضروريٌ. تكون
كما تكون ... فلا صديق ولا عدو
يراقب هنا ذكرياتك /
فالتمس عذرا لمن تركتك في المقهى
لأنك لم تلاحظ قَصَّة الشَّعر الجديدة
والفراشات التي رقصت علي غمازتيها /
والتمس عذراً لمن طلب اغتيالك،
ذات يوم، لا لشيء... بل لأنك لم
تمت يوم ارتطمت بنجمة.. وكتبت
أولى الأغنيات بحبرها...
مقهى، وأنت مع الجريدة جالسٌ
في الركن منسيّا، فلا أحد يهين
مزاجك الصافي،
ولا أحدٌ يفكر باغتيالك
كم انت منسيٌّ وحُرٌّ في خيالك!



 
هو لا غيره
محمود درويش - فلسطين

هو، لا غيره، من ترجل عن نجمة
لم تصبه بأيّ أذى.
قال: أسطورتي لن تعيش طويلاً
ولا صورتي في مخيلة الناس /
فلتمتحني الحقيقة
قلت له: إن ظهرت انكسرت، فلا تنكسر
قال لي حُزْنُهُ النَّبٌَّوي: إلي أين أذهب؟
قلت إلى نجمة غير مرئية
أو إلى الكهف/
قال يحاصرني واقع لا أجيد قراءته
قلت دوّن إذن، ذكرياتك عن نجمة بعُدت
وغد يتلكأ، واسأل خيالك: هل
كان يعلم أن طريقك هذا طويل؟
فقال: ولكنني لا أجيد الكتابة يا صاحبي!
فسألت: كذبت علينا إذاً؟
فأجاب: على الحلم أن يرشد الحالمين
كما الوحي /
ثم تنهد: خذ بيدي أيها المستحيل!
وغاب كما تتمنى الأساطير /
لم ينتصرْ ليموت، ولم ينكسرْ ليعيش
فخذْ بيدينا معاً، أيها المستحيل !
 

 
 
برتقالية
محمود درويش - فلسطين
برتقالية، تدخل الشمس في البحر /
والبرتقالة قنديل ماء على شجر بارد

برتقالية، تلد الشمس طفل الغروب الإلهيَّ /
والبرتقالة خائفة من فم جائع

برتقالية، تدخل الشمس في دورة الأبدية /
والبرتقالة تحظى بتمجيد قاتلها:
تلك الفاكهة مثل حبة الشمس
تقَشرُ
باليد والفم، مبحوحة الطعم
ثرثارة العطر سكرى بسائلها...
لونها لا شبيه له غيرها،
لونها صفة الشمس في نومها
لونها طعمها: حامض سكري،
غني بعافية الضوء والفيتامين c..

وليس على الشعر من حرج إن
تلعثم في سرده، وانتبه
إلى خلل رائع في الشبه


 
 
درس من كاما سوطرا
محمود درويش - فلسطين

بكأس الشراب المرصّع باللازرود
انتظرها،
على بركة الماء حول المساء وزهر الكولونيا
انتظرها،
بصبر الحصان المعدّ لمنحدرات الجبال
انتظرها،
بسبع وسائد محشوة بالسحاب الخفيف
انتظرها،
بنار البخور النسائي ملء المكان
انتظرها،
برائحة الصندل الذكرية حول ظهور الخيول
انتظرها،
ولا تتعجل فإن اقبلت بعد موعدها
فانتظرها،
وإن أقبلت قبل موعدها
فانتظرها،
ولا تُجفل الطير فوق جدائلها
وانتظرها،
لتجلس مرتاحة كالحديقة في أوج زينتها
وانتظرها،
لكي تتنفس هذا الهواء الغريب على قلبها
وانتظرها،
لترفع عن ساقها ثوبها غيمة غيمة
وانتظرها،
وخذها إلى شرفة لترى قمراً غارقاً في الحليب
انتظرها،
وقدم لها الماء، قبل النبيذ، ولا
تتطلع إلى توأمي حجل نائمين على صدرها
وانتظرها،
ومسّ على مهل يدها عندما
تضع الكأس فوق الرخام
كأنك تحمل عنها الندى
وانتظرها،
تحدث اليها كما يتحدث ناي
إلى وتر خائف في الكمان
كـأنكما شاهدان على ما يعد غد لكما
وانتظرها
ولمّع لها ليلها خاتما خاتما
وانتظرها
إلى ان يقول لك الليل:
لم يبق غيركما في الوجود
فخذها، برفق، إلى موتك المشتهى
وانتظرها!...




 


سوناتا
محمود درويش - فلسطين
إذا كنت آخر ما قاله الله لي، فليكن
نزولك نون ال "أنا" في المثنى. وطوبى لنا
لقد نور اللوز بعد خطى العابرين، هنا
على ضفتيك، ورف عليك القطا و اليمام

بقرن الغزال طعنت السماء، فسال الكلام
ندى في عروق الطبيعة. ما اسم القصيدة
أمام ثنائية الخلق و الحق، بين السماء البعيدة
وأرز سريرك، حين يحن دم لدم، ويئن الرخام؟

ستحتج أسطورة للتشمس حولك. هذا الرخام
الهات مصر وسومر تحت النخيل يغيرن أثوابهن
و أسماء أيامهن، ويكملن رحلاتهن إلى آخر القافية

وتحتاج أنشودتي للتنفس : لا الشعر شعر
ولا النثر نثر . حلمت بأنك آخر ما قاله
لي الله حين رأيتكما في المنام، فكان الكلام


 

 
هكذا قالت الشجرة المهملة
محمود درويش - فلسطين

خارج الطقس ،
أو داخل الغابة الواسعة
وطني.
هل تحسّ العصافير أنّي
لها
وطن ... أو سفر ؟
إنّني أنتظر ...
في خريف الغصون القصير
أو ربيع الجذور الطويل
زمني.
هل تحسّ الغزالة أنّي
لها
جسد ... أو ثمر ؟
إنّني أنتظر ...
في المساء الذي يتنزّه بين العيون
أزرقا ، أخضرا ، أو ذهب
بدني
هل يحسّ المحبّون أنّي
لهم
شرفة ... أو قمر ؟
إنّني أنتظر ...
في الجفاف الذي يكسر الريح
هل يعرف الفقراء
أنّني
منبع الريح ؟ هل يشعرون بأنّي
لهم
خنجر ... أو مطر ؟
أنّني أنتظر ...
خارج الطقس ،
أو داخل الغابة الواسعة
كان يهملني من أحب
و لكنّني
لن أودّع أغصاني الضائعة
في رخام الشجر
إنّني أنتظر ...
*

 
 






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق